ارتبط اسم يوسف شاهين في الذاكرة العربية بالسينما "الجادّة" و"الملتزمة" و"الطليعية" و"المثقفة" و"السياسية"، تعابير تصحّ على بعض أعماله (وبعض أفضلها على أية حال)، لكنها لا تصحّ بالضرورة على مجمل إرثه السينمائي، من دون أن يعني ذلك أيّ تصنيف إيجابي أو سلبي لفكرة ارتباط العمل الفني أو الأدبي باتجاهات أو دوافع سياسية أو فكرية معينة. إلا أنّ هذا التصنيف المرحليّ، سواء أكان صحيحا أم لا، مجحف في حقّ تجربة شاهين وإرثه، بقدر ما لطالما كانت التصنيفات مجحفة بحقّ أصحابها، إذ يغدو من الصعب استقبال أو إعادة استقبال العمل الفني أو الأدبي، خارج إطار التصنيف الذي وضع فيه هذا العمل أو صاحبه حتى استقرّ في أذهان الناس وفي الذاكرة العامة.
لنا في تجربة استقبال الأدب الروسي الذي ارتبط على سبيل المثال، وطوال عقود، بالتيارات الشيوعية والاشتراكية واليسارية في العالم العربي، مثال على محدودية التصنيف، وقد رأينا كيف خفتت الحماسة تجاه الأدب الروسي واستكشافه وترجمته (رغم ثرائه الكبير) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنّ بعض رموز هذا الأدب، مثل دوستيوفسكي وتشيخوف وليرمنتوف وغيرهم، لا صلة لهم بإرث الدولة الشيوعية ولا ماكينته الدعائية. وبالمثل، وباستثناء بعض الأسماء القليلة (ويتمان، فوكنر، همينغواي، تشومسكي إلخ)، لطالما جنحت الاتجاهات النقدية العربية إلى تصنيف الأدب والثقافة الأميركيين، في سياق الصراع السياسي والأيديولوجي مع "أميركا الإمبريالية"، فتأخر العرب كثيرا عن الإحاطة بالمشهد الثقافي الأميركي، كما تأخرت الأوساط النقدية (المتراجعة أصلا) عن استكشافه والتفاعل مع كنوزه، واليوم نجد لدى الأجيال الشابة، مثلما يتجلّى ذلك عبر منصات التواصل الاجتماعي وبعض المشاريع النشرية، تفاعلا متحرّرا من أثقال الأيديولوجيا السابقة.
من جهة أخرى، غلب التعامل مع بعض رموز الثقافة العربية، ومنهم يوسف شاهين، انطلاقا من كونهم سلطات ثقافية، حدود تأثيرها والتفاعل معها، منوطة بوجودها المادي، أي كونها حية وناشطة في المشهد الأدبي أو الفني، أما بعد رحيلها فيذوي أثرها، ويقلّ التفاعل مع إرثها بل وفي بعض الأحيان تنشا ردّة فعل سلبية تجاهها، بوصفها تنتمي إلى مرحلة معينة، فإذا انطوت تلك المرحلة انطوى حضورهم معها. رأينا ذلك يحدث مع إرث شعراء مثل نزار قباني ومحمود درويش والماغوط، كما رأيناه مع إرث سينمائيين مثل صلاح أبو سيف ويوسف شاهين ومارون بغدادي والعشرات غيرهم.