تنتشر توقعات بقرب انهيار إسرائيل جراء الاحتجاجات على التعديلات القضائية التي أقرها الكنيست بناء على اقتراح حكومة بنيامين نتنياهو.
إسرائيل التي هي "أوهى من بيت العنكبوت"، يتبادل أنصار الممانعة وإعلامهم ومنصاتهم التهنئة بالأزمة التي تعيشها والتي جعلت نهايتها قاب قوسين أو أدنى. وهو مزاج يسود هؤلاء الأشخاص والدول والبيئات التي ينتمون إليها في أعقاب كل معركة تشارك فيها إسرائيل بغض النظر عن النتيجة. إدمان الانتصارات لم يترك مجالا لتقييم موضوعي لمسارات الأمور، وكيف أن تدمير غزة المرة تلو الأخرى وسقوط آلاف الضحايا الفلسطينيين وتعميق معاناتهم الإنسانية والمعيشية، لا يمكن أن يُحسب انتصارا للمقاومة الفلسطينية حتى لو ظهر مقال في صحيفة إسرائيلية ينتقد أداء جيش الاحتلال.
الأدعى إلى الدهشة أن الممانعين على الجانب المعادي لإسرائيل، يرددون أنها أنشئت بقرار دولي وبدفع غربي. وأنها الولاية الأميركية الحادية والخمسون، وأن أميركا قدمت لها ولا تزال تقدم مساعدات مالية وعسكرية طائلة حتى تستطيع التماسك. وأن إسرائيل لولا الدعم الأميركي الهائل لها لسقطت منذ زمن بعيد.
المجتمع الإسرائيلي أصيب باختلال في توازنه ومن يسيطر على السلطة الآن يضع اعتباراته الشخصية، كنجاة نتنياهو من أحكام بالسجن ونهاية حياته السياسية أو أوهامه الآيديولوجية، فوق أي اعتبار آخر بما فيه إمكان اللجوء إلى العنف كسبيل لتسوية النزاعات الداخلية
قد تكون كل هذه الطروحات صحيحة. لكن فات أصحابها أن الغرب الذي أنشأ إسرائيل، بغض النظر عن مساهمته في هذا الفعل، اتخذ هذا القرار لمصلحة أراد تحقيقها وهي حل "المسألة اليهودية" التي أصبحت لا تطاق بعد المحرقة النازية وانكشاف هول ما ارتُكب في معسكرات الاعتقال وضرورة تسوية المسألة قبل إعادة تشكيل الغرب بقيادة أميركية لخوض الحرب الباردة. هذا ناهيك عن الدور الوظيفي الذي أدته إسرائيل في السياسات الغربية منذ مشاركتها في حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) سنة 1956 والذي أعلن استعداد إسرائيل لخدمة الأهداف الغربية حتى لو لم تكن معنية بها، قبل أن تعي أن الغرب لم يعد بقيادة الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية الآفلتين بل بات بزعامة الولايات المتحدة التي صار يقال، بعد حرب 1967 خصوصا أن السياسات الأميركية حيال إسرائيل هي "سياسات داخلية".
كل هذا وغيره من علامات التحالف العميق والاستراتيجي الذي يكرر القادة الأميركيون التأكيد عليه في كل مناسبة ومن دونها، لم يعن شيئا لمنظري السقوط الإسرائيلي الوشيك. السؤال الذي يجب أن يحرك أذهاننا هو: إذا اقتربت إسرائيل من السقوط بفعل تناقضاتها الداخلية، هل سيتدخل الغرب للحيلولة دون ذلك أم سيترك "الولاية الأميركية رقم 51" تنهار وتنشب فيها حرب أهلية؟ وهل سيتحمل الغرب عبء عودة المسألة اليهودية إلى دياره وخسارة استثماراته منذ "وعد بلفور" في المشروع والدولة؟
وإذا سلمنا جدلا بأن الغرب اليوم ليس في أفضل حالاته وأنه قد لا يهب لنجدة إسرائيل، هل من تصور حيال ما بعد لحظة الانهيار؟ هل من قوى فلسطينية مؤهلة لجني هذه الثمرة؟ وهل سيتوجه فعلا زعيم "حزب الله" اللبناني مع مؤيديه إلى القدس على متن حافلات لتحرير المدينة على ما تعهد به في خطاب له قبل سنوات عندما رأى أن تدمير عشر فرق مدرعة إسرائيلية وهي العمود الفقري للجيش الإسرائيلي، مهمة يستطيع عناصره إنجازها بغمضة عين.
لن يكسب الفلسطينيون ولا العرب شيئا من انهيار إسرائيلي يكون رموزه من أمثال بن غفير، اللهم غير زيادة نظام استبدادي آخر على الضفة الشرقية للبحر المتوسط
لا جدال في عمق الصراعات الداخلية الإسرائيلية. وصاحب الحكم المسبق وحده من لا يرى تمدد نفوذ المستوطنين وهم جلهم من اليمين المتطرف والتيارات الدينية المتشددة، تمددهم من الضفة الغربية التي سلمتها الحكومات الإسرائيلية لهم لتغييرها ديموغرافيا وتحويلها إلى مناطق ذات أغلبية يهودية، إلى أعلى مراكز القرار في الحكومة في القدس، حيث يجلس أسوأ أنواع المستوطنين العنصريين على المقاعد الحكومية والنيابية ويرسمون السياسات العليا الاقتصادية والتربوية والأمنية لإسرائيل التي تتضمن قرارا نهائيا بتدمير المجتمع الفلسطيني والقضاء إلى الأبد على قضيته.
بيد أن ذلك يجب أن يحض على خشية جيران إسرائيل مما سيأتي وليس على التأهب لبدء "الأفراح والليالي الملاح" بقرب الاقتتال اليهودي– اليهودي في الدولة العبرية؛ فالمسيرة التي بدأت مع فوز مناحم بيغن في الانتخابات التشريعية عام 1977 وتدشينه صعود اليمين المتحالف مع الأحزاب الدينية، وصولا إلى فشل القوى الأقل تطرفا في تشكيل حكومة قابلة للعيش بين 2019 و2022 وعودة بنيامين نتنياهو على رأس حكومة تضم أشخاصا مثل إيتمار بن غفير وبتسيئل سموتريتش هما وغيرهما من خلاصة الهستيريا الاستيطانية، تقول إن المجتمع الإسرائيلي أصيب باختلال في توازنه وأن من يسيطر على السلطة الآن يضع اعتباراته الشخصية، كنجاة نتنياهو من أحكام بالسجن ونهاية حياته السياسية أو أوهامه الآيديولوجية على غرار قادة المستوطنين، فوق أي اعتبار آخر بما فيه إمكان اللجوء إلى العنف كسبيل لتسوية النزاعات الداخلية.
ولن يكسب الفلسطينيون ولا العرب شيئا من انهيار إسرائيلي يكون رموزه من أمثال بن غفير، اللهم غير زيادة نظام استبدادي آخر على الضفة الشرقية للبحر المتوسط. فلعنة الهويات التي يلعب اليمين الديني الإسرائيلي في ملعبها الآن، لن تترك مجالا لاحتفال "بانهيار" إسرائيل الوشيك بل ستكون فاتحة حروب داخلية وخارجية لا تبقي ولا تذر.