أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها المبعوث الإيطالي الخاص إلى العاصمة السورية دمشق، ستيفانو رافاغان، اهتماما وتكهنات كبيرة؛ فهي هي أول زيارة رسمية لمسؤول إيطالي إلى سوريا منذ القطيعة الدبلوماسية مع نظام بشار الأسد عام 2012.
أهمية هذه الخطوة في كونها انزياحا عن موقف الاتحاد الأوروبي الثابت من نظام الأسد، فلم يمرّ شهر على تصريح جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، بأنّ أي احتمال لاستعادة العلاقات مع سوريا يتوقف على تحقيق تقدم كبير في العملية السياسية. ونظرا لعدم إحراز مثل هذا التقدم، فقد أثارت زيارة رافاغان أسئلة حول وجود انقسامات محتملة داخل الاتحاد الأوروبي بشأن سوريا، بل إنها أثارت أسئلة حول حدوث تحول في سياسة روما تجاه الأسد.
ومع انقشاع الغبار، فإن من الأهمية بمكان الكشف بعناية عما تنطوي عليه هذه الزيارة قبل استخلاص استنتاجات نهائية حول الدوافع الحقيقية والآثار المترتبة على هذا الحدث الهام. ولكن يظل من الحكمة في الوقت الحالي اعتبار هذا تطورا عضويا لموقف إيطاليا تجاه النظام السوري، أكثر منه انقلابا جذريا في السياسة. ولربما سعت الزيارة إلى تعزيز التعاون بين روما والنظام في قضايا محددة، بالإضافة إلى تعزيز دورها كوسيط بين دمشق وأوروبا.
وعلى الرغم من التزام إيطاليا بمعايير السياسة الخاصة بالاتحاد الأوروبي تجاه سوريا، إلا أنّ روما لم تكن على الدوام على وفاق تام مع شركائها الأوروبيين؛ فعلى غرار شركائها الأوروبيين، استدعت روما سفيرها لدى سوريا في عام 2012، وامتثلت للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الأسد، سوى أن موقف إيطاليا من دمشق أبدى على الدوام بعضا من عدم الانسجام على مر السنين.
على الرغم من التزام إيطاليا بمعايير السياسة الخاصة بالاتحاد الأوروبي تجاه سوريا، إلا أنّ روما لم تكن على الدوام على وفاق تام مع شركائها الأوروبيين
ويبدو أن البلدين يحافظان على درجة معينة من التعاون، ولا سيما في المسائل الاستخبارية؛ إذ وردت أنباء عن اجتماعات جرت في 2016 بين محمد ديب زيتون، الرئيس السابق للمديرية العامة للأمن في سوريا، وألبرتو مانينتي، الرئيس السابق لوكالة الأمن الخارجي الإيطالية. بالإضافة إلى زيارات مثيرة للجدل، مثل زيارة علي مملوك المزعومة إلى روما بداية عام 2018، التي أثارت سخطا في الأوساط الأوروبية، خاصة أن كلا من زيتون ومملوك يخضعان للعقوبات الأوروبية منذ مايو/أيار 2011.
لقد أصبح موقف إيطاليا المتردد تجاه سوريا أكثر وضوحا بعد عام 2017، نظرا للتقدم العسكري الذي أحرزه النظام في سوريا، وللديناميات السياسية الداخلية الأخرى داخل إيطاليا. فبين عامي 2017 و2019، سافر وفدان إيطاليان على الأقل بقيادة باولو روماني– وهو عضو بارز في حزب يمين الوسط، والرئيس السابق لمجموعة "فورزا إيطاليا" في مجلس الشيوخ- إلى دمشق للقاء المسؤولين السوريين. وأعلنت إيطاليا على نحو مفاجئ عن إعادة فتح سفارتها في دمشق عام 2019، وهو الأمر الذي يتعارض مع موقفها الرسمي بالامتناع عن التقارب مع النظام السوري. ولكن روما لم تعين سفيرا بل اكتفت بتعيين قائم بالأعمال، الأمر الذي أدى إلى التأخير في استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة.
وعندما تولت حكومة جورجيا ميلوني السلطة في روما أكتوبر/تشرين الأول 2022، أصبح من الواضح أنّ إيطاليا مستعدة لتغيير نهجها الدبلوماسي. وقد أعدت ميلوني- التي أشادت بالدور الذي لعبه حلفاء الرئيس السوري بشار الأسد في حماية المسيحيين السوريين- المسرح لروما من أجل اتخاذ خطوات أكثر جرأة تجاه دمشق، على غرار كثير من الدول الأخرى في المنطقة.
وفي فبراير/شباط 2023، تصدرت وكالة التعاون الإنمائي الإيطالية عناوين الصحف بتوقيعها على اتفاقية مثيرة للجدل مع الهلال الأحمر العربي السوري، وكانت تلك أول اتفاقية من نوعها تُعقد بين وكالة عامة لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي ومنظمة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظام السوري ودائرته الداخلية.
أصبح موقف إيطاليا المتردد تجاه سوريا أكثر وضوحا بعد عام 2017، نظرا للتقدم العسكري الذي أحرزه النظام في سوريا، وللديناميات السياسية الداخلية الأخرى داخل إيطاليا
وبناء على هذه الخلفية، أصبحت زيارة ستيفانو رافاغان الأخيرة إلى دمشق أقل إثارة للدهشة؛ فمثلها كمثل التحركات الاستراتيجية السابقة لإيطاليا تجاه دمشق، من غير المرجح أن تؤدي رحلة مبعوثها الخاص إلى سوريا إلى مصالحة فورية وكاملة مع الأسد. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تخاطر بتوتير العلاقات مع الحلفاء الغربيين والولايات المتحدة، خاصة في غياب مكاسب مالية واضحة في ظل العقوبات الاقتصادية.
بدلا من ذلك، يبدو أن إيطاليا توجه اهتمامها نحو تعزيز علاقاتها مع الأسد من أجل تحقيق أهداف محددة. وعلى غرار بعض الدول العربية، قد تسعى روما للحد من تدفق تهريب الكبتاغون من سوريا، خاصة وأن إيطاليا قد أصبحت بلد عبور لهذا المخدر. علاوة على ذلك، يمكن أن يكون دافع إيطاليا خلق فرصة لمكافحة الإتجار بالبشر، بالنظر إلى الاتهامات الموجهة إلى شركة "أجنحة الشام" للطيران السورية بنقلها مهاجرين إلى ليبيا، قبل أن يشقّوا طريقهم متوجهين إلى إيطاليا. ومن خلال إعادة بناء قنوات اتصال مباشرة مع دمشق، يمكن لإيطاليا أيضا أن تجعل من نفسها وسيطا أوروبيا محتملا في الصراع السوري.
وعلى الرغم من رغبتها في جني هذه المكاسب، يبدو أن روما مترددة في متابعة هذا الهدف على حساب شركائها الأوروبيين. وقد يكون ذلك بسبب عدم ثقتها بأن إعادة الاتصال مع النظام السوري كافية لإقناع الأسد بتقديم تنازلات، كما يتضح من جهود المصالحة الأردنية، التي فشلت حتى الآن في إحراز أي تقدم حقيقي مع دمشق.