انطلقت المشاورات بين الأحزاب والكتل الأسبانية القومية والمحلية لتشكيل تحالفات محتملة لقيادة حكومة جديدة، بعدما أظهرت نتائج الانتخابات البرلمانية أن الغريمين، الحزب الشعبي، والاشتراكي العمالي، لم يحصل أي منهما على الأغلبية المطلقة المطلوبة أي 176 نائبا، وبالتالي ظهر المشهد السياسي في مدريد دون فائز على صيغة "لا غالب ولا مغلوب". وصفته وسائل إعلام أوروبية بالانشطار الأسباني غير القابل للتجميع.
ورغم أن كل استطلاعات الرأي كانت تتوقع فوزا كاسحا لأحزاب اليمين على غرار ما تم تسجيله في الانتخابات البلدية والمحلية التي جرت قبل شهرين، لكن المفاجأة جاءت من الاشتراكيين الذين تمكنوا من لجم الاندفاع نحو اليمين بالتخويف من المجهول القادم من التطرف السياسي (الرجعي كما سماه الإعلام الأسباني)، وربما خسارة المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والحريات الفردية والجماعية المحققة في العهد الاشتراكي لفائدة العمال والمرأة والمتقاعدين. وبالتركيز على قوة أسبانيا في محيطها الأورومتوسطي ما جعلها تحقق أفضل أداء اقتصادي في مجموع الاتحاد الأوربي. كل ذلك أقنع المترددين بأهمية حماية المكتسبات الديمقراطية وتقليص حظوظ وصول اليمين إلى قصر مانكلوا (Palace of Moncloa).
صحيح أن اليمين المعتدل المعارض تقدم النتائج بحصوله على 136 مقعدا مقابل 122 لحزب رئيس الحكومة الاشتراكي بيدرو سانشيز، وحاز ثلث مقاعد الكورتيس (البرلمان) من أصل 350 مقعدا، لكنه يحتاج إلى تحالفات من أقصى اليمين مثل حزب فوكس (33 مقعدا) ونواب آخرين لهم آيديولوجيا فرانكونية (نسبة إلى الجنرال فرانكو الذي حكم البلاد بالنار والحديد من 1936 إلى 1975). لأن الطريق إلى مدريد يحتاج دعم القوميين... وحتى في هذه الحالة لن يحصل ألبيرتو نونيز فيخوAlberto Nunez Feijoo، رجل غاليسيا القوي على الأغلبية المطلقة.
ولا يبدو الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وعضوية أسبانيا في حلف شمال الأطلسي، وترؤسها دورة الاتحاد الأوروبي الحالية، تسمح بهذا الانعطاف إلى اليمين الراديكالي مع كل مخاطره الجيوسياسية في وقت تعيش فيه أوروبا حربا ضروسا في شرقها، وانكماشا اقتصاديا في وسطها (ألمانيا)، ومخاطر الهجرة غير النظامية القادمة من جنوب المتوسط. وكلها ملفات ملغومة تُخيف المجتمع الأسباني غير المتجانس سياسيا، تماما كما يخاف العودة إلى ما قبل الديمقراطية.
انتخابات دون فائز
حسب صحيفة "لومانيتيه" (Humanité) الفرنسية فإن الأسبان يعارضون حزب "فوكس" الراديكالي أكثر من انتقادهم أداء الحكومة، بدليل أن الحزب خسر 22 مقعدا، بينما زادت مقاعد بقية الأحزاب الأخرى بدرجات متفاوتة، استفاد منها الحزب الشعبي المحسوب على اليمين التقليدي بـ47 مقعدا، وفي حال الاختيار بين حكومة اليمين وحكومة اليسار فإن التحالف مع حزب فرانكو كما يسمونه سوف يعتبر خطا أحمر ويحسم المعركة نحو الوسط.
وربما تكون العودة إلى انتخابات جديدة في الخريف المقبل حلا بديلا إذا لم يتوفق أي من الغريمين كما حصل قبل عام 2019. لكن المسألة ليست بهذه البساطة فلا أحد حتى الآن يتحدث عن انتخابات جديدة لأنها تكتسي بعض المخاطر بالنسبة إلى الجميع، وتعيد ملامح انتخابات سابقة، لم يتمكن أي من الحزبين الكبيرين ترؤس الحكومة دون الاعتماد على أحزاب صغيرة حليفة سياسيا ومزعجة استراتيجيا... آخرها مع حزب بوديموس اليساري حول أكثر من قضية تتصل بالعلاقات الدولية الحيوية لمدريد. منها اجتماعات الحلف الأطلسي، والعلاقات مع دول جنوب البحر المتوسط.
للأسف هناك أحزاب صغيرة من أقصى اليسار وأقصى اليمين وأخرى انفصالية وقومية ودينية يكون لها قوة الحسم في مصير التحالفات السياسية. حتى إن المصالح الإقليمية والمحلية يكون لها السبق على المصالح الوطنية، في أولويات هذه التنظيمات الصغيرة التي يقودها مندفعون متهورون، لهم عواطف آيديولوجية غير منسجمة دوما مع مواقف الدولة العميقة الأمنية والاقتصادية والجيواستراتيجية.