في لقاء تلفزيوني مع الزميل الدكتور سليمان الهتلان، بثته قناة "سكاي نيوز" عربية، تحدثتُ عن قضية حدّ الإسلام وحدّ الإيمان ومَن الذي يضع هذا الحد. ولأن اللقاءات التلفزيونية تكون في الغالب مجرد إشارات إلى قضايا، فقد أحببت اليوم أن أتحدث بإسهاب عن هذه القضية، لأنها في غاية الأهمية، ولأن تجليتها قد تساهم في المراجعة، وفي تخلي العرب والمسلمين عما أعاق نهضتهم كل هذه القرون، أعني قضية التكفير.
الحدّ في اللغة العربية هو المنع والفصل بين الشيئين، ومنتهى كل شيء حدّه. حدّ الشيء هو الوصف المحيط بمعناه، المميّز له عن غيره. وعندما نتحدث عن حدّ الإسلام، فلا بد أن نذكر معه، وأن نميز عنه حدّ الإيمان. ذلك أن دائرة الإيمان وحدّه أوسع من دائرة الإسلام وحدّه، فأكثر البشر مؤمنون بالله، أي يؤمنون بوجوده ويحبونه ويعبدونه، وإن اختلفت مسمّيات أديانهم ومذاهبهم، سواء كانت اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، فكل هؤلاء يؤمنون بالإله المتعالي الذي خلق الكون والإنسان، وكلهم يؤمنون بقوته وقدرته وتصريفه لأحداث الوجود، ويؤمنون بالكتب السماوية والملائكة والبعث والحساب والجنة والنار، ومنهم من يؤمن بأن محمدا عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، لكنهم لا يؤمنون بوجوب اتباع شريعته. هنا يتضح أن حدّ الإسلام يقصد به من آمنوا بالديانة التي جاء بها محمد، دون غيرها من الديانات، ولا يوجد لدى اليهود والمسيحيين اعتراض على قولنا بأنهم مؤمنون وليسوا بمسلمين.
لكن ماذا عن حدّ الإسلام؟ هل توافق المسلمون على أنهم كلهم مسلمون؟ أم أنهم يخرجون بعضهم من دائرة الإسلام، لأسباب يرون أنها مخرجة من الملة، مع أنها ليست سوى مسائل علمية مختلف فيها؟ من قرأ التاريخ الإسلامي جيداً يعلم أن المسلمين كانوا يكفّرون بعضهم منذ القرن الأول، وأنهم كانوا يستبيحون دماء بعضهم والأموال، بناء على هذا التكفير.
زاد الطين بلة، وجود المتزمتين من الفقهاء، ممن دفعهم تكوينهم النفسي المتوتر، والظروف السياسية المضطربة، إلى التخصص الدقيق في مسألة "الأسماء والأحكام"، وهو الاسم الفني لمسألة التكفير. هؤلاء الفقهاء أصبحوا ينظرون إلى ذواتهم على أنهم هم مَن يضع حدّ الإسلام وحدّ الإيمان.
هناك رسائل جامعية تتخذ حدّ الإسلام موضوعا لها، تنظر فيها وأنت تنتظر بحثا علميا فلا تجد إلا نقولا لا تقبل النقاش. نقولٌ تدور في الأعم الغالب حول الشيخ ابن تيمية، الذي أصبح كل تكفيري يبحث في نصوصه عما يكون داعما لخط التكفير. مع الأسف، لم أجد في مَن كتبوا هذه الرسائل "الجامعية" مَن ناقش تضارب أقوال ابن تيمية مع بعضها في مضمار التكفير. في كتابه الذي يحمل عنوانا غريبا للغاية، "تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير فيها القول الصواب بل لا يوجد فيها إلا ما هو خطأ"، وثّق ابن تيمية مقارنة بين ابن سينا والفارابي فقال: "لكن ابن سينا أقرب إلى الإيمان من بعض الوجوه، وإن لم يكن مؤمنا". يقصد أن ابن سينا أقرب الى الإسلام من الفارابي، وإن كانا كافرين في النهاية.
زاد الطين بلة، وجود المتزمتين من الفقهاء، ممن دفعهم تكوينهم النفسي المتوتر، والظروف السياسية المضطربة، إلى التخصص الدقيق في مسألة "الأسماء والأحكام"، وهو الاسم الفني لمسألة التكفير
هذا التكفير الذي جاء متأخرا غريب بدوره، لأن ابن تيمية في كتابه "نقض المنطق" شهد لابن سينا بالتوبة وأنه التزم القيام بالواجبات الناموسية، على حدّ تعبيره. ولا ندري على وجه اليقين كيف حكم بتوبته، ثم حكم بكفره بعد توبته، مع أن ابن سينا مات قبله بقرنين من الزمان. الفارابي وابن سينا أيضا مؤمنان بوجود الله حتماً، لكنهما لا يتصوران عالم النبوة وعالم الملائكة كما يتصورهما المسلمون، فتصورهما ينطلق من بيئة مختلفة، فيوصف مذهبهما كما هو، بلا زيادة ولا نقصان.
مرة أخرى يتكرر التقريب الناقص عند ابن تيمية، فيقول عن ابن عربي الطائي "إنه أقرب القائلين بوحدة الوجود إلى الإسلام وأحسن منهم كلاماً في مواضع كثيرة فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات". ماذا بقي بعد هذا إذا كان في النهاية يثبت الإله الذي هو غير العالم، ويقر بالكثرة المتضمنة في الوحدة، ويأمر بالعبادات، ويؤلف كتبه وهو في طريق الحج والعمرة المحفوف بالأخطار في ذلك الزمان، لكي يُحكم بإسلامه؟ لا ينبغي أن نفرح بشهادة ابن تيمية هنا حين يصفه بأنه الأقرب الى الإسلام، فكل من يعلم حدّ الكفر وحدّ الإيمان عنده وألفاظ مسألة الأسماء والأحكام (التكفير) يعرف أنه لا يزال يُكفّره هنا. لأنه لم يدخله بعد في حدّ الإسلام، على الرغم من أنه يفرق بين الظاهر والمظاهر، أي يثبت اثنين: الإله والعالم، ويأمر بالعبادات، بحسب عبارات ابن تيمية نفسه.
مسألة حدّ الإسلام جديرة بأن نتفلسف حولها بعض الشيء. هناك حدّ الإسلام الذي لا يعلمه إلا الله، وهناك حدٌّ وضعه ابن تيمية للإسلام لا يلزم أحدا سوى ابن تيمية ومن ألزم نفسه بقوله. بناء على هذا الحدّ الخاص به، يحكم على المفكرين بالإسلام أو الكفر. لكننا لا ندري على وجه اليقين هل أصاب حكم الله حقاً أم لم يصبه، لكن من سيقنع حوارييه بأن وضع الحدّ كان مسألة اجتهادية تحتمل الصواب والخطأ؟
يدل على هذا آية وحديث، فنحن نقرأ في كتب التفسير أن النبي دعا على قريش بدعاء شديد فنزل في ذلك قرآن يتلى: "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم" (سورة آل عمران آية 128). أما الحديث فهو نص ورد في جامع مسلم بن الحجاج"وإذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، فلا تُنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ علَى حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فيهم أَمْ لَا". فإذا كان نبي الإسلام ليس له من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وإذا كان النبي يقول لأصحابه إنهم لا يدرون هل سيصيبون حكم الله أم لا، فكيف لنا أن نترك إنساناً يخطئ ويصيب لكي يقرر لنا ذلك؟
هذا هو السؤال الذي نسيناه لقرون طويلة، وقد حان الوقت لكي نعيد النظر فيه. ليس لك من الأمر شيء.