جرت العادة أن يُنجِز مترجم العمل الأدبي عمله ثم يتوارى مثلَ جنديٍّ مجهول على هامش أمجاد المؤلّف وصيتِه. لكن مهلا، أليس المترجم مؤلّفا شريكا هو الآخر حسب ما ترى دراسات معرفية ونقدية راهنة، أليست كلماته تلك التي نقرأُها في الأعمال المترجمة؟ أليست قرارته واختياراته هي التي تأتي إلينا بوديعة المؤلّف؟ مع ذلك، قلّما يخطر في بال القارئ أنّ الكلمات التي يقرأها هي الكلمات التي انتقاها بعناية مترجمٌ قابعٌ في الظلّ يفكّ رموز المجازات وشفرات الخرائط الثقافية أكثر مما قد تكون الكلمات نفسها التي أراد مؤلّف العمل المُترجَم قولها.
يعيد رحيل ميلان كونديرا، الروائي التشيكي الأعظم بعد مواطنه كافكا، إحياء هذا التساؤل الإبستمولوجي. وبصرف النظر عمّا قد يُفضي إليه تساؤلٌ كهذا من إجابات وسجالات، يظلّ من الصعب القفز على حقيقة أننا لولا الجسور التي شيّدها المترجمون عبر تاريخ البشرية لما تيسّرت قراءاتنا لدُرَر الإبداع الإنساني منذ بواكير الأبجديات البشرية. وربما يحوزُ هذا التوكيد مسوّغ المصداقية عند النظر إلى واقع أنّ جُلَّ ما قرأه العالم من أدب مؤلّفٍ بقامة كونديرا إنّما جاء مُتَرجَما عن الفرنسية، على الأقل قبل أن يبدأ كونديرا الكتابة بالفرنسية أواخر ثمانينات القرن الماضي. لكنَّ المفارقة أنّ الترجمة لطالما كانت مشكلة كُبرى بالنسبة إلى كونديرا الذي عكف بنفسه منذ عام 1985 على مراجعة جميع أعماله المترجمة إلى الفرنسية بدافع شعوره بأنّ الترجمة"تجعل أسلوبه يبدو سطحيا"، وهذا على حدّ تعبيره في دراسته التي قدّمها في قالب روائي بعنوان "الوصايا المغدورة" والتي يقول فيها "لا بدّ من أن يكون الأسلوب الشخصي للمؤلّف هو السلطة العليا بالنسبة إلى المترجم، لكن مترجمين عديدين يخضعون لسلطة أخرى: سلطة الأسلوب الشائع ’للّغة الفرنسية الجميلة’ أو ’الألمانية الجميلة’ أو ’الإنكليزية الجميلة’ إلخ، عن طريق معرفتهم باللغة التي تعلّموها في الثانوية".
في كتابها البحثي الصادر سنة 2006، الذي أنجزت نصفه الأول في قاعة المحفوظات في المكتبة الوطنية في براغ، "حيثُ يجلس في إحدى الزوايا الكاتبُ الحقيقي الذي أسبغ عليه كونديرا اسما مستعارا هو فولتير في روايته "كتاب الضحك والنسيان"، وحيث نسخةٌ من الترجمة الفرنسية للرواية ممهورة بختم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، تلفت الباحثة في الترجمة الأدبية بجامعة دبلن ميشيل وودز في دراستها المعمّقة عن علاقة كونديرا الإشكالية بالترجمة والمترجمين إلى أنّ الترجمة سابقة على الأصل في حالة أدب كونديرا وهي أصلٌ في حد ذاتها. وتنطلق وودز في بحثها من مُفارقَتَيْ موقف كونديرا الإشكالي من ترجمة أعماله ومترجميها، وأنّ معظم رواياته صدَرَت أولى طبعاتها باللغة الفرنسية ولم تصدُر بالتشيكية التي كُتِبَت بها (كان كونديرا يسميها مصفوفات)، بل بقيت حبيسة الأدراج ولم ينشُرها بلغته الأم إلّا بعد سنواتٍ من صدور ترجماتها الفرنسية، وهذه الروايات هي: "الحياة في مكان آخر" (1973)، و"فالس الوداع" (1976)، و"كتاب الضحك والنسيان" (1979)، و"كائن لا تحتمل خفته"(1984)، و"الخلود"(1991).