مطعم في بيروت ينكأ جراح الهويّات المتناحرةhttps://www.majalla.com/node/296196/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B7%D8%B9%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AA-%D9%8A%D9%86%D9%83%D8%A3-%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%86%D8%A7%D8%AD%D8%B1%D8%A9
بيروت: يصعب ردّ الجدل الذي أثارته تغريدة الوزيرة السابقة والإعلامية مي شدياق خلال دعوتها إلى مطعم وسط بيروت، والتي اعترضت فيها على عدم تقديم الكحول، إلى حدود واضحة. إذ أن السجال الذي أثير حولها وعبرها تجاوز كل الحدود، ورُبط بعناوين عريضة كمسألة الحرية، كما فتح نقاشا حول هوية البلد والشكل الذي يفترض أن يعكسه المكان العام ومعناه وطبيعته.
قالت الوزيرة السابقة في تغريدتها: "ماذا يحصل في بعض مطاعم وسط بيروت التي ترفض تقديم المشروب، لماذا تغيير صورة لبنان الانفتاح؟ أنت حر في اعتبار الخمر منكرا وأنا أحترم ديانتك لكن في ديانتي قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان؟ يا عالم نحن في بيروت عاصمة الحرية وتقبل الآخر.لا تدخلونا في عادات لا تشبهنا".
تحاول شدياق الدفاع عن تعريف للفضاء العام الذي لا يجب في رأيها أن يعكس عقيدة معينة بل عليه أن يكون مطابقا لعنوان عريض ومتخيّل عن بلد ينظر إليه على أنه حاضن للانفتاح، ويرسم لعاصمته بيروت لوحة تتجلّى فيها معاني الحرية وتقبّل الآخر.
الجماعية التي تتجلّى في صيغة تعليق شدياق والتي تريد من خلالها الإيحاء بأنها تنطق بلسان عام وشامل، ترتدّ في واقع الحال إلى خصوصية ضيقة إذا ما قسناها على جملة المواقف والتطلعات والآراء الصادرة عنها وعن التيار السياسي الذي تؤيّده والبنية الثقافية والهوياتية التي تتحرّك من خلالها وتعبر عن نفسها من داخلها. كل ذلك يصعّب من مناقشة احتجاجها ضمن منطق الصواب والخطأ، بقدر ما يعكس البنى الصراعية والهوياتية المنفجرة في البلد والتي لم تنجح يوما في نسج أي تعريف واضح للأسس التي يقوم عليها والهوية التي يتشكل منها، فقد بقيت مفاهيم الحرية والانفتاح بمثابة صدى لتعريف يُطلق على المال السائب مؤكدا أنه يعلّم الناس الحرام، وقياسا عليه يمكن القول إن المفاهيم السائبة جعلتها محلا للتأويلات التي لا تنتهي.
صراع التأويلات في بلد مثل لبنان لم يكن صراعا تقوده نخب أكاديمية وفكرية بل كان على الدوام صراعا مسلحا ودمويا تركّب الأفكار انطلاقا منه ولا تبنى عليه. وقد استحضرت الردود على تغريدة شدياق مناخا كان يسود اعتقاد أنه تراجع وذوى في بلاد يقول خطابها الرسمي إنها خرجت من نفق الحرب الأهلية من 33 عاما. حين يُستعاد خطاب امتلاك الأماكن وأصلها والحديث عن الطابع العام لمكان محدد لناحية الغلبة الطائفية والتي يمكن من خلالها فهم وشرعنة ممارسات معينة أو طقوس معينة لناحية القبول والرفض والسماح أو المنع، فإن ذلك يعني أن شدياق في تصوراتها الواردة في تغريدتها تتحدّث عما لم يوجد بعد، وعما ما لم يكن يوما قائما.
لا مكان عام في البلد فكل الأماكن، وفي مقدّمها وسط بيروت، قد باتت بالفعل خاصة وتعكس عقيدة الطرف المسيطر عليها، منذ التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وما تلاه من أحداث
بعض الردود دافع عن حق مستثمر المطعم بلال الجراح الذي خرج بخطاب يؤكد فيه أن عقيدته لا تسمح له بتقديم الكحول، ولكنه يصرّ مع ذلك على انتمائه الى ثقافة الترحيب بالجميع، ويعتبر أن الوزيرة أساءت إليه، ولكنها في الوقت نفسه قدّمت له دعاية كبرى، مشددا على أن الحضارة لا تكون بالكحول. أما الردود الدفاعية فأكّدت في معظمها حقه من دون أن تناقشه وكأنه من المسلّمات، في حين خرج الناشط السياسي والحقوقي بشارة خير الله في خطاب يعتمد على نص المادة رقم 9 من الدستور اللبناني التي تقول إن "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام"، معتبرا أن "شرط الاخلال بالنظام العام قد يكون متحققا في منع الكحول في المطعم، لأنه واقع في وسط المدينة الذي يشكل مكانا عاما يقصده السياح الذين يشربون الكحول، ما يعني أن طبيعة النظام العام للمكان والإطار السياحي الذي يعكسه يفرض على أي مطعم قائم فيه الانسجام مع هذه المعايير خلافا لما يمكن قوله في حال كان المكان في الضاحية الجنوبية التي تقطنها غالبية سكانية يتعارض شرب الكحول مع عقيدتهم".
ماذا يحصل في بعض مطاعم وسط بيروت التي ترفض تقديم المشروب؟
لماذا تغيير صورة لبنان الانفتاح؟
انت حر في اعتبار الخمر منكرا وانا احترم ديانتك،لكن في ديانتي قليل من الخمر يفرح قلب الانسان!
يا عالم نحن في بيروت عاصمة الحرية وتقبل الآخر.
لا تدخلونا في عادات لا تشبهنا.#بيروت_لنا_جميعا
لا ينتبه صاحب هذا الرأي إلى أن مفهوم المكان العام في لبنان ليس قائما، ويكاد يكون مستحيلا، فلا مكان عام في البلد فكل الأماكن، وفي مقدّمها وسط بيروت، قد باتت بالفعل خاصة وتعكس عقيدة الطرف المسيطر عليها، منذ التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وما تلاه من أحداث، فقد أي احتمال بأن يكون مكانا عاما، وخصوصا بعد أن بات المجال الذي يردّد أصداء هزائم كل مشاريع الاحتجاج على السلطة. البنية الإشهارية لوسط البلد الذي كان يتمتع بها في لحظة ما والتي لم تكن في الأساس كافية لتحويله إلى مكان عام، سقطت تحت قبضة القمع الأمني الرسمي من جهة واعتداءات الحزب المسلح الذي يسيطر على البلاد من جهة أخرى. وبذلك صار ملتقى لنفيين متصلين، أحدهما تمارسه السلطات التي من المفترض بها حماية فكرة المكان العام ورعايتها وصيانة حق التعبير فيه، والأخرى غير الرسمية والتي نجحت في أن تكون مصدرا لكل السلطات.
تمثال رفيق الحريري نفسه الذي حرص تياره السياسي على عدم نسبه إلى إطار طائفي واضح المعالم، كان عرضة للتبخيس والتسفيه في مناسبات عديدة كشفت عن أن فكرة العمومية في البلد تعني الهشاشة على عكس الصلابة الخصوصية المدافع عنها بالدم والحديد والنار، وكان هذا الاعتداء الممكن على تمثاله تفسيرا لواقع الجهة التي ينطق باسمها وتأكيدا مريرا على هزيمتها التي يتطلب محوها التماسك داخل خصوصية طائفية واضحة الملامح كانت دوما مهددة ضمن البنى التي وسمت ملامح الوجود السني في لبنان بشبح الإرهاب، وهو ما أكدت الكثير من ردود الفعل على تغريدة الشدياق أنها تستحضره.
الإبقاء على وسط المدينة الذي أصابته كذلك تبعات تفجير المرفأ في 2020 بعد إجهاض الثورة، يعود إلى سبب جوهري يكمن في أنه أصبح نافيا لمعناه ولفكرة المكان العمومي التي لم تتحقق، فهو كان يمثل بشكل من الأشكال النزوع إليها والرغبة فيها، وقد ترك ليكون مقبرة حية لكل هذه الآمال.
مسألة الكحول وتقديمها أو عدمه ومدى عكس ذلك لطبيعة المكان ومعنى المدينة، لا يستطيعان ملامسة عمق الأزمة المتمثلة في واقع أن كلّ مكان في البلد صار مركزا للتعبئة الأيديولوجية والطائفية، وأن التعبير الصادق والوحيد الذي يمكن الركون إليه يتجلّى في التعبير العمومي عن الرغبة في عدم العيش معا وفي استحالة التعايش. صاحب المطعم حين يشهر فهمه لحقه في ممارسة إسلامه في مكان يفترض به أن يكون مكانا عاما، إنما يعلن عن انتماء محدّد لا يمكنه إلا أن يكون طاردا لجماعة ما، وشدياق حين تشهر خصوصيتها الدينية وموقفها وصورتها عن البلد فإنها تعبر كذلك عن ثقافة استعلائية طاردة لا يمكن التفاهم مع مرجعيتها والأصل الذي تنبثق عنه.
والحال فإن الرمزيات غير الخاصة تتلازم مع التبخيس والازدراء فعلى سبيل المثال كان من الممكن للتيارات المختلفة التي أمّت ساحة الشهداء في مناسبات عديدة ومتباينة، العبث بنصب الشهداء الذي يفترض أن يكون التمثيل الرمزي العمومي الأبرز في البلاد كونه يمثل حالة مكرّسة ومحتفى بها في يوم رسمي، وكان من الممكن تعليق أعلام حزبية وشالات على التمثال لا بل تسلقه. كان ذلك ممكنا قياسا بعمومية مفترضة، لكن الأمر يختلف إذا ما ذهبنا إلى أي مشهدية تمثل خصوصية ما، فقد شهدنا ردة فعل عنيفة من مؤيدي الحزب التقدمي الإشتراكي لدى المسّ بنصب شهداء الجبل، وقد أيد الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط هذا النزوع ودافع عنه.
موقعة "التويست"
وفي واقعة تعود إلى عام 1963 منع كمال جنبلاط الذي كان يحتل حينذاك منصب وزير الداخلية إحياء ثلاث حفلات للمغني الفرنسي الأشهر جوني هاليداي تحت عنوان أنه يقدم رقصة "التويست" التي كانت منافية للأخلاق وفق وجهة نظره التي استنسخها عن قرار الجمهورية المتحدة التي تشمل مصر وسوريا بمنعها في عام 1962.
قضى نص القرار بمنع هاليداي من الغناء وترحيله من لبنان خلال 24 ساعة. احتج وزير السياحة شارل حلو وهدّد بالاستقالة، وكان العنوان السياحي والاقتصادي يسيطر على موقفه، وقد اتهم جنبلاط بضرب الاقتصاد، بينما تضامن معه وزير العدل فؤاد بطرس قبل أن يغير رأيه ويصدر فتوى تعتبر أن قراره الذي صادق عليه محافظ بيروت لا يشمل كازينو لبنان.
في واقعة تعود إلى عام 1963 منع كمال جنبلاط الذي كان يحتل حينذاك منصب وزير الداخلية إحياء ثلاث حفلات للمغني الفرنسي الأشهر جوني هاليداي تحت عنوان أنه يقدم رقصة "التويست" التي كانت منافية للأخلاق وفق وجهة نظره
لم تكن تلك الحرب على هاليداي سوى تظهير لحرب كانت قائمة في لبنان، ويتجلى ذلك في أن أبرز مؤيدي جنبلاط كان المرجع الأعلى للطائفة الشيعية حينذاك محمد التقي الصادق والإمام موسى الصدر بينما اضطر رئيس الحكومة رشيد كرامي إلى التدخل شخصيا للإفراج عن المغني الذي اعتقل لساعات ورُحّل من البلاد خوفا من إثارة أزمة عالمية.
بعد تلك الواقعة بسنوات وفي عام 1969 استقبل كمال جنبلاط في مكتبه المفكر السوري صادق جلال العظم ضاربا في عرض الحائط بمذكرة التوقيف الصادرة في حقه على خلفية كتابه الجدلي "نقد الفكر الديني" معتبرا إياه رفيقا في الفكر، مطلقا رسالة فسرت في ذلك الوقت في أنه يكرّس نفسه في موقع فوق الدولة والقانون.
كل ذلك يعني أن قضايا المواقف المرتبطة بالمنع والسماح والخصوصيات لا تتجلى إلا بوصفها ملامح صراعات، منع رقص "التويست" كان يؤدي وظيفة الانسجام مع منظومة قوة سائدة في المنطقة، ويبني صورة مختلفة ومغايرة لجسد لا يحق له إطلاق طاقات البهجة والمرح، بل يجب عليه كبتها في سبيل إنشاء جسد المقاتل الذي حظي بتبجيل عام.
يمكن البحث عن مصادر ذلك التبجيل في المخاوف والصراعات التي وسمت التعامل مع الظاهر الثقافية. الخصوصيات المرتدية لباس الحرص على الأخلاق والمصلحة العامة والتي يمكن استشفافها من ذلك الموقف الراديكالي للزعيم الدرزي كمال جنبلاط الذي كان أبرز قيادات اليسار في البلد من رقصة "التويست"، بوصفها تطلق مجالا يقلّص من سطوة طائفته الصغيرة على شبابها. في المقابل كانت تلك الملاقاة له في مواقفه من قبل مرجعيات شيعية تمهيدا لنشر مثل هذه السطوة وربطها بالسلاح الذي صار مع موسى الصدر "زينة الرجال" في تأسيس واضح لمفاهيم الرجولة والذكورية وسطوتها التي طبعت الثقافة اللبنانية ولا تزال.
لا نقاش في البلد حول الخصوصيات يمكن أن ينطلق من مادته الفعلية أو العناوين المعلنة له. الخطاب المسيحي حول الانفتاح والحرية وربط ذلك بلبنان السياحي الذي طالما كان عنوانا لاقتصاد مطبوع بصبغة مسيحية معلمنة، تدحضه المواقف التي عرّاها التردّي العام في البلاد وسمح بظهورها إلى العلن، والتي صار فيها كل تأويل وكل قراءة لأي حدث سياسي أو اجتماعي أو طبيعي يقرأ من زاويته الطائفية البحتة والعارية. شهدنا احتجاجات على كون الحرائق تطال المناطق المسيحية وحسب، كما أن قسما كبيرا من البلديات الواقعة في نطاق مسيحي تمنع مباشرة سكن المسلمين فيها وقد فُسّر تفجير مرفأ بيروت بوصفه تدميرا لمسيحية المدينة وما إلى ذلك.
مسألة الكحول في المطعم المقام في وسط المدينة لم تكن في نظر الوسط السني سوى استعادة للمدينة المسلوبة والتي تناهبتها الطوائف الأخرى. بذلك تصير الأماكن كلها مقدّسة بشكل من الأشكال، أي طاردة للخارج وفق تعريف المفكر والباحث الروماني ميرسيا إلياد للمكان المقدس الذي يصبح كذلك عبر نفيه لكل ما يقع خارجه.
وتشمل هذه الصفة كل الأمكنة في عموم لبنان، والتي إذا شئنا وصفها لقلنا إنها أشبه بتجمعات لمنظمات بدائية وسرية، مستنتجين بذلك أن كل ما صدر من خطابات حولها ومنها إلى العلن، وعلى الرغم من فظاظته ومباشرته، ليس سوى جزء مما يعتمل في الصدور من عداوات لا تني تتجدّد مغرقة الثقافي والسياسي والاجتماعي في بحرها المتلاطم.