رحل الروائي الكبير ميلان كونديرا عن عمر يناهز الرابعة والتسعين، كأنه رحل "من تلقائه" عن هذا العالم المتشظّي، اللامعقول، المتحوّل في حروبه وعنفه، وسقوط الأفكار والأحلام وحتى المدن بمكوّناتها الأساسيّة، والفلسفة باتجاهاتها.
انطفأ كانديرا وكأن كل الشموع التي أضاءت الكون انطفأت قبله.
ونعرف أنه، في السنوات الثلاث الأخيرة، انعزل بين جدران منزله، لم تعد الحياة تبوح إلا بالخراب، وخلفه وأمامه تساقطت القمم الأوروبية ونهضتها، كأنه أضرب عن الكتابة بكل أشكالها... صامتا صمت المنازل الفارغة: انقطعت أخباره. وغاب كل سؤال عنه. كأنّما أعطى كل شيء واستسلم لشيخوخته.
قرأت خمس أو ست روايات له "المزحة" (1965)، كتاب الضحك والنسيان (1975)، "كائن لا تحتمل خفّته" (1984) "الجهل" (2001)، "فالس الوداع" (1972)،... و"البطء"..
وقد كتب ثلاثة أبحاث أساسية حول الرواية: "الوصاية المغدورة"، والستارة"، و"اللقاء"، وهي أبحاث يحاول فيها التعمّق في تاريخ الرواية، وتحوّلاتها، وأربابها ورموزها.
أما رواياته التي قرأتها، فلن "تصدمني"، أو تقنعني بهذه الشّهرة التي حققها في أوروبا وفي العالم، حتى بات كأنه حجر الزاوية في الرواية العالمية وغيرها. لأنني، أصلا، لا أحبّذ أن يضمّن أي روائي أو شاعر، أطروحات فلسفيّة أو اجتماعيّة أو أيديولوجية في تضاعيف نصّه. وهو قد ورث تداعيات جويس وحوّلها تحاليل تسيّج أعماله، وتحاصرها:
قال بعضهم إنه لم يصدر أي رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين والمنظومة الاشتراكية، ويعود ذلك إلى أنه اختار مواضيع معظم سردياته حول إدانة الحقبة الشيوعية ورموزها، كأنما بانتهاء هذه المرحلة خلت جعبته فلم يعد يكتب ما يثير الاهتمام، وعزّز الكاتب بيار انسولسن هذا الموقف قائلا "إنه أصبح يكتب ويفكر بكل شيء".
لكنه في هذه المرحلة وضع أبحاثا (كما أسلفنا) مهمة في الرواية، منذ سرفانتس، وبروست، وكافكا، وموزيل. ونستخلص من هذه الأعمال النقدية أنه حدّد مفهومه للرواية، ورأى فيها أنها تعلّمنا أن نفهم حقائق الآخرين والطبيعة المحدودة لحقيقتنا وأن نفهم العالم كسؤال متعدّد الأوجه وهذا يلازم ما أحسسناه: إن رواياته فكريّة تذكرنا بروايات توماس مان وموزيل. يقول الكاتب جوليان ريوس "إن كونديرا يحاول من خلال رواياته ودراساته النقدية التماهي بالسابقين الكلاسيكيين الذين سجّلوا تطويرا وتحديثا، في قراءة نقديّة جديدة: أي من خلال مفاهيمه وربّما مفاهيم الرواية الجديدة في أوروبا وسواها. فهو مفكّر كتب الرواية التي تفكّر، ونازع مَن التقاهم قبله، كبارا ورموزا واستلهمهم كاتجاهات وكتابات. فرواياته تجمع بين الحدث والفكر والتأمل الميتافيزيقي والفلسفة العميقة، بشكل من التمرد على الأشكال السائدة لابتكار لغة جديدة مستوحية من روائيين سبقوه كالفرنسي فلوبير صاحب رائعة "مدام بوفاري"، أو فرانز كافكا، وموزيل، وديدرو.
نستخلص من هذه أعمال كونديرا النقدية أنه حدّد مفهومه للرواية، ورأى فيها أنها تعلّمنا أن نفهم حقائق الآخرين والطبيعة المحدودة لحقيقتنا وأن نفهم العالم كسؤال متعدّد الأوجه
لكن ما يجمع مختلف هذه الأجواء والتبادلات أنّ رواياته التي كتبها في منفاه الفرنسي يستحضر فيها المنفى بكل مقارباته ومعانيه الفلسفية فيلحّ عليه حنين إلى بلده وطفولته وشبابه. يكتب: "من يعيش خارج بلده، يسير في فضاء فارغ" فوق الأرض تحت شبكة الحماية التي تمدّها إلى كل كائن بشري، إنها بلاده حيث وُلد وتعلم بين أفراد عائلته وأهله ورفاقه وحيث يفهم بلا جهد أو صعوبة لغتهم وعاداتهم.
وعندما يكون خارج وطنه "يشعر المهاجر بحنين جارف إليه لأنه خروج من حضن اللغة الأم ليجد نفسه في عالم غريبا شبيها بالفراغ". وهذا الحنين، ككل حنين يوقظ الذكريات.
وفي هذه الروايات التي يكتبها في المنفى يستعيد شخصيات مَن فرّوا من جحيم الأنظمة الشمولية التي ركّز عليها بأعماله ونقل صورا مرعبة عنها. لكنه لا ينقل هذا "الأرشيف" الذي يسكن الذاكرة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تفكيك تلك المعطيات ويخضعها لبحث نقديّ عميق للتاريخ والمجتمعات، وللأغوار الداخلية.
وهذا ما أشرنا إليه، فكونديرا ليس روائي حدث، وقصة، مثل فلوبير، وبلزاك، بل هو مفكر وباحث. يتوصل في مقارباته الروائية والفلسفية إلى آراء جديدة.
يقول "إن البحث عن الأنا عند الفيلسوف الفرنسي ديكارت سينتهي دائما إلى الشعور بالعجز"، وأما كافكا "فلا يتساءل عما هي الدوافع الداخلية التي تحدّد سلوك الإنسان وإنما يطرح سؤالا مختلفا: ما هي إمكانات الإنسان في عالم باتت فيه الأسباب الخارجية ساحقة إلى حد لم تعد المحركات الداخلية تزن شيئا".
لكن في أكتوبر/ تشرين الأول 2008 ذكرت مجلة ريبكن التشيكيّة أن التحقق قيد الإجراء من قِبل مؤسسة الأرشيف التاريخي عما إذا كان كونديرا شابا قد وشى بصديقه المنشق ميروسلاف فوراتشيك إلى الشرطة السرية التشيكوسلوفاكية في 1950، واستندت الاتهامات إلى تقرير مركز الشرطة. وقد دافع عنه بعض الكتاب مثل أورهان ياموق، وماركيز، وكارلوس فوانتيس وفيليب روث وسلمان رشدي...
تتميز روايات كونديرا بمنهجية واثقة، وأرضيه فلسفية وعقلانية وسردية حيّة، متنوّعة في فضائها الواحد، يمكن ضمّها إلى لائحة الروايات الذهنية التي كتبها سارتر وكامو وسيمون دو بوفوار وجبران خليل جبران وباولو كويلو ونجيب محفوظ وارفين يالوم. لكن معظم هؤلاء الكتاب إما فلاسفة يكتبون رواية أو روائيون يتعاطون الفلسفة أو يهتمون بفلسفة التربية أو الأخلاق أو الحرية، أو الظواهر الاجتماعية. لكن كونديرا هو الذي كتب الشعر (ولم ينجح)، والمسرح، هو روائيّ، بموهبته وثقافته. والفلسفة في روايته لا تدعو إلى محمول أيديولوجي، بل الفلسفة هي أداة لتعميق النظرة في الحياة، وتناقضاتها، وقضاياها. فهو روائي يستخدم الفلسفة، وليس فيلسوفا ذا مذهب فلسفي، ولهذا فإن العنصر الفكري يذاب في البنيات الروائية، فهو من الأدوات التي تساعده على فهم الحالات الإنسانية والتعمق فيها، وكذلك في مسألة الكتابة الروائية وحتى تقنياتها الدقيقة والبنائية.
وهو ينطلق في كلامه عن الرواية من مقولات فلسفيّة وتاريخية تبدأ مع هوسرل وديكارت في الفلسفة ومع سارفنتس وريتشاردون وتولستوي وجويس في الرواية؛ وتقوم المقولات على أن الفلسفة المنبثقة من الفلسفة اليونانية تنظر إلى العالم بصفته مشكلة يجب حلها عبر تعميق المعرفة التقنيّة والرياضيّة متناسية الحياة المحسوسة.
ويقول الواقع إن الفلسفة نسيت كينونة الإنسان في الرواية.