روسيا في عين العاصفة منذ حرب أوكرانيا. والصين تحت الضوء منذ التصعيد في تايوان. هناك دولة ثالثة، تستحق الاهتمام الكبير. إنها الهند. ليس لأنها أصبحت الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان، بل بسبب تقدمها الثابت في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية... وانحيازها الكامل إلى طرف، يغير المعادلات.
لا غرابة في أن يكون هناك تنافس ثلاثي على كسب هذا المارد الصاعد في خضم المعركة على النظام العالمي الجديد والمواجهات العسكرية المباشرة. ولا غرابة أيضا، في أن يكون رئيس الوزراء ناريندرا مودي حريصا على ترك خيارات ثلاثة مفتوحة بين العروض القادمة إليه من رؤوساء أميركا جو بايدن، والصين شي جينبينغ، وروسيا فلاديمير بوتين. واقع الحال أنه حاليا في حاجة للدول الثلاث، وليس في عجلة من أمره طالما أن النظام العالمي القديم الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية في طور التفكك، وطالما أن بناء الهيكل الجديد يحتاج إلى وقت وعوامل قوة جديدة.
أهمية روسيا بالنسبة إلى الهند كبيرة؛ اعتمدت عليها لخلق توازن ضد الجار الكبير، الصين، وهي المورد العسكري لها تاريخيا، ولا تزال تنتظر الكثير من قطع الغيار لطائراتها المقاتلة وسلاحها وإتمام تنفيذ صفقة صواريخ "إس-400" الموقعة قبل خمس سنوات. كما أن نيودلهي في حاجة إلى موسكو كي تستند إليها في صراعها مع بكين، خصوصا بعد التوترات والصدامات العسكرية قبل ثلاث سنوات.
أهمية روسيا بالنسبة إلى الهند كبيرة؛ اعتمدت عليها لخلق توازن ضد الجار الكبير، الصين، وهي المورد العسكري لها تاريخيا، ولا تزال إتمام تنفيذ صفقة صواريخ "إس-400"
غير أن مودي يعرف تماما حقيقة السلاح الروسي. لا شك أن أكثر من 500 يوم من حرب أوكرانيا، كشفت الحدود الفعلية لهذا السلاح في المعارك الحقيقية. تجنب انتقاد الكرملين ونصح بوتين باتخاذ خيار السلام بدل الحرب. التقط حلفاء أوكرانيا ذلك. فتحت الحرب أبوابا بين الهند والدول الغربية، وأظهرت حاجة كل منهما إلى الآخر. والباب الذي فتحه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بزيارته للهند قبل 23 سنة، استغله بايدن لفتح صفحة جديدة مع مودي. تجاوز البيت الأبيض الانتقادات السابقة لقضايا حقوق الإنسان والحظر على مودي ومنعه من دخول أميركا، واستقبله في يونيو/حزيران الماضي بحفاوة بالغة تضمنت دعوته لإلقاء كلمة نادرة في الكونغرس الأميركي، على أمل "فتح فصل جديد" في العلاقات لتكون "الأكثر تميزا في القرن الحادي والعشرين".
قدم بايدن إلى مودي صفقة محركات لطائرات مقاتلة و"مسيرات" ووعودا عسكرية، ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء الهندي إلى فرنسا ومشاركته مع الرئيس إيمانويل ماكرون في احتفالات يوم الباستيل ومنحه وسام شرف، لتضيف رمزية كييرة على الزيارة والاهتمام الفرنسي بالهند "الشريك الاستراتيجي"، و"العملاق" في العالم المستقبلي.
أميركا تحتاج الهند في منافستها مع الصين. نيودلهي في حاجة الى موسكو وواشنطن، لكنها ليست مستعدة لدخول في مواجهة ضد بكين
وكما حصل في واشنطن، عاد مودي من باريس بصفقة طائرات "رافال" وغواصات. محاولة غربية لتوفير أسباب عسكرية للهند للابتعاد عن روسيا والوقوف ضد الصين التي تستثمر في تطوير قوتها العسكرية، لكونها تسعى إلى تجاوز الولايات المتحدة، القوة البارزة في العالم. من حسن حظ الهند الاهتمام الغربي بتشكيل تحالفات عسكرية جديدة ، كان آخرها اتفاقية "أوكوس" الجديدة، التي تضم أميركا وبريطانيا وأستراليا، لبناء جيل جديد من الغواصات النووية للبحرية الأسترالية، إضافة إلى إحياء التحالف الرباعي القديم (أميركا، الهند، اليابان، أستراليا) لمواجهة الجار الصيني.
لا خلاف أن دلهي تعتبر الدفاع عن نفسها ضد التهديد العسكري من بكين، أمرا حيويا، وتريد توفير أدوات ردع، من سلاح وتحالفات، خصوصا بعد الاشتباك الحدودي الذي أسفر عن قتلى من الطرفين. هذه المبادرات تشمل أيضا إحياء علاقات إقليمية قديمة في منطقة الشرق الأوسط (اللقاء الرباعي مع أميركا والإمارات وإسرائيل) وتحالف "بريكس" لدول الجنوب الذي يعقد قمته في جنوب أفريقيا الشهر المقبل واستضافة "قمة العشرين" في نيودلهي في سبتمبر/أيلول المقبل.
مودي سيترك خياراته مفتوحة ويجري توازنات دقيقة بين الكبار الثلاثة، أميركا والصين وروسيا، لتحسين موقع بلاده في هذه المرحلة الانتقالية، جامعا بين التعاون والشراكة والمنافسة... دون الانجرار إلى صراع عسكري
لكن الهند تدرك في الوقت نفسه، حجم التداخل بين الاقتصادين للدولتين الكبيرتين، الصين والهند، ومخاطر الدخول في مواجهة مباشرة شاملة بين الجارين أو التورط إلى جانب الدول الغربية في أي صدام مع بكين حول تايوان. كما تدرك تركة الاعتماد العسكري على روسيا ومخاطر الانحياز إلى روسيا أو طرف في الحرب الأوكرانية.
في المدى المنظور، واضح أن مودي سيترك خياراته مفتوحة ويجري توازنات دقيقة بين الكبار الثلاثة، أميركا والصين وروسيا، لتحسين موقع بلاده في هذه المرحلة الانتقالية، جامعا بين التعاون والشراكة والمنافسة... دون الانجرار إلى صراع عسكري.