يحاول بعض علماء الاجتماع تحديد اللباس بما يقوم به من وظائف، وما يؤديه من أدوار في حياة الإنسان وفقا للعمل الذي يقوم به، والمنطقة التي يقطنها، والبيئة التي يعيش فيها الخ. وهكذا يذهب هؤلاء إلى القول، على سبيل المثال، إن وظيفة اللباس هي أن يحمي ضدّ تقلبات الطقس، ولدغ الحيوانات، ولسع الحشرات. غير أن هذا التحديد الوظيفي لا يقنع البعض. وهكذا فقد لاحظ أحد الدارسين: لو أننا حدّدنا اللباس بوظيفته، وقلنا إنه ما يحمي من البرودة، فإن شعوب البحر الأبيض المتوسط ستظلّ عارية عشرة شهور في السنة، هذا إن لم نذهب حتى القول إن الملابس، بالأحرى، هي التي تضعف من مقاومة الشعوب، وتفقدها القدرة على التأقلم مع درجات الحرارة الطبيعية. وعلى النحو نفسه يرد آخرون: إن نحن نظرنا إلى اللباس في وظيفته كوسيلة لستر الجسد دلالة على الحشمة والوقار، فإننا نكون أكثر ميلا إلى تبسيط الأمور. ذلك أن اللباس يُظهر عندما يُخفي، وعندما يستر جوانب فإبرازا لأخرى. فالستر غالبا ما يقترن بالكشف، والحشمة بالإثارة، وغالبا ما يهدف التستر إلى إبراز مفاتن الجسد بكيفية غير مباشرة.
لكن، حتى إن لم نكتف بهذه النظرة الوظيفية، وذهبنا إلى القول مع هيغل، إنّ اللباس هو "ما يصبح به الجسم دالا"، أي حاملا لعلامات، فإن ذلك يحتّم علينا أن نعتبر أن هذه العلامات، تتحدّد في علاقاتها التفاضلية، مثل علامات دو سوسور، من حيث تحكُمها الفروق والاختلافات، أي أن دلالاتها لا تجد مبرّرها أساسا في الطبيعة، وإنما في تلك العلاقات ذاتها. وهذا الطابع العلاقي لا بدّ وأن يقلل من شأن كل الدراسات الوظيفية للّباس، لكنه يؤكد أساسا أن اللباس لا يحيل إلى هوية بقدر ما يردّ إلى اختلاف. فهو ما يميّز وليس ما يوحّد.
في هذا السياق يشير رولان بارت إلى ما يدعوه قانونا أثبته دارسو الفولكور، فحواه أنّ "كل منظومة لباس هي منظومة جهوية أو عالمية، وهي لا تكون أبدا منظومة قومية وطنية". لعل ما يعنيه صاحب "منظومة الموضة" هو أن اللباس لا يدل على انتماء بقدر ما يدلّ على تشيّع، اعتبارا بأن التشيّع هو التميّز عن فريق لصالح آخر، فهو لا يحدّد أساسا من أنتمي إليهم، بقدر ما يعيّن من أبتعد عنهم، ومن لست منهم. اللباس لا يحدّدني أنا في ذاتي، وإنما يحدّدني نسبة لآخر، فهو لا يردّ إلى أيّ هوية بما فيها الهوية الدينية. وهنا أيضا نلمس الطابع الجهوي الذي يشير إليه بارت. ذلك أن لا وجود لِلِباس يحيل إلى ديانة بعينها، كل ما هناك ألبسة تحيل إلى تشيّع ديني. فليس هناك لباس مسيحي، بل هناك لباس أرثودوكسي، ولباس كاثوليكي، وآخر بروتستانتي. وربما نستطيع قول الشيء نفسه بالنسبة للّباس داخل الديانة الإسلامية حيث تتباين الألوان حسب الفرق.
· ذلك أن اللباس يُظهر عندما يُخفي، وعندما يستر جوانب فإبرازا لأخرى. فالستر غالبا ما يقترن بالكشف، والحشمة بالإثارة، وغالبا ما يهدف التستر إلى إبراز مفاتن الجسد بكيفية غير مباشرة
لعل المجال الاجتماعي هو أوضح ميدان يتضح فيه هذا الطابع التفاضلي Différentiel التمييزي للّباس، فاللباس يميّز بين أجيال وبين فئات ومهن. وهنا نلمس تقسيما للعمل على مستوى الملبس موازيا لتقسيم العمل الاجتماعي إلى عمل فكري وآخر يدوي. وقد سبق لأمبرتو إيكو أن لاحظ أن من الملابس "ما يفرض عليك أن تعيش من أجل الخارج"، ومنها ما يعيدك إلى حياتك الباطنية، منها ما يحيلك خارج نفسك، ويبعدك عن ذاتك، ويحول بينك وبين إعمال الفكر، ومنها ما يردّك إليها كي تغرق في تأملاتك، وتنشغل بنفسك. هناك ملابس فضفاضة "تترك للجسد حرية الحركة"، وللفكر فرص العمل، وفي مقابلها ملابس تلبس صاحبها، وهي ملابس "عملية" كتلك التي يحملها رجال الأمن ورجال المطافئ والجنود والرياضيون.
ليس من العسير اليوم أن تتعرّف على حياة صاحبك وبرنامجه اليومي من خلال ملابسه، إذ سرعان ما تتبيّن أنه "في يوم عطلة" يلبس سروال "الجينز" الضيق، أو أنه ذاهب على جناح السرعة نحو مكان العمل. وهنا أيضا ستعرف ما إذا كان سيقابل السيد المدير أو شخصيات مماثلة، أو ما إذا كان سينزوي في مكتبه، حتى إذا عاد إلى البيت، وأراد أن يخلو إلى نفسه و"يعود إليها"، خلع ملابس "الخروج" ليلبس "الروب دي شامبر" أي، حرفيا، لباس الانغلاق والاعتكاف ..و"الدخول".
يبيّن أمبرتو إيكو كم ناضل المفكرون الغربيون خلال قرون للتخلص من اللباس الضيق: "فبينما كان الجنود يعيشون خارجا مغلّفين داخل لباسهم وأقنعتهم، فإن رجال الدين المسيحيين قد أبدعوا ملابس كانت تنسى الجسد، وتترك له مجالا للحركة وفضاء للحرية".
لكن، هل يمكن أن نقول عن لباس اليوم إنه، هو كذلك، أداة تمييز وإحداث للفروق؟ لا شك أن ميلا عارما أخذ يسود في اتجاه توحيد الملبس الذي أصبح اليوم ينحو نحو إلغاء الفروق حتى بين الجنسين. ولم تعد "عولمة الملبس" هذه مرتبطة بوظيفة، ولا دالة على تمييز، ولا محيلة إلى هوية.