لم يكن مشهد أُنس جابر الأشهر وهي تقف باكية أمام أميرة ويلز، بعد خسارتها نهائي ويمبلدون أمام التشيكية ماركيتا فوندروسوفا، قبل أيام، سوى مشهد موقّت، أو مشهد درامي واحد من مشاهد حياتها الملهمة والثرية. البكاء المُتعب، الدمع الذي تحاول مسحه عن وجهها، والكاميرا التي تنتقل بين بكائها وبكاء زوجها وفريقها الفني، صنعت مشهدا مؤثرا لبطلةٍ لا توحي على الرغم من كل انكسارها بأنها خاسرة. شيء آخر خارج النتيجة كان أكثر إلهاما لكل من شاهد لحظات نهاية المباراة. كانت الخسارة حقيقية بلا شك، لكن ما بدا حقيقيا كذلك، القيمة التي كوّنها المشهد برمّته، التعاطف الذي أبدته أميرة ويلز كان جادا، وليس موقفا إنسانيا اعتباطيا وحسب. فملامح شخصية أُنس في تلك اللحظات تتجاوز التاريخ المجرّد الذي يتيحه الرقم، كما تتجاوز النصر والخسارة ولغة الأرقام التي تستحوذ على كل الرياضات. ما تجلى أمام المشاهدين والمتابعين، بطلة ممتعة ورياضية نزيهة تجسد عاطفة نشطة وقادرة على خلق التمركز حولها، وجذّابة لقيمة التقدير والاحترام. أي أنها شخصية تُبرز بنى اجتماعية ونفسية ورياضية في آنٍ واحد. هذا كله ما سيجعل التاريخ لا يتوقف أمام خسارتها، بالمعنى التقليدي للكلمة، بل أمام القيمة التي أُضيفت الى الرياضة أولا، والى موقع أُنس كفتاةٍ تونسية وأفريقية وعربية بصفتها المُلهمة.
كان مشهد خسارة أنس قاسيا على الرغم من كل شيء. لكن المفاجئ أن الجمهور تناسى وجود بطلة متوّجة أخرى، وانصبّ تركيز الجميع على أُنس وانفعالاتها، مترقبا تعليقها على اللحظة الراهنة، ووعودها للمستقبل. وكانت مسيرة أُنس في بطولة ومبيلدون، الأرفع في كرة المضرب، بإقصائها أربعة مصنفين من الأوائل، جعلتها متوّجة مسبقا. حتى الجماهير كانت تنتظر تتويجها منذ المباراة الأولى لها في البطولة. حتى اللاعبة أرينا سابالينكا، قالت في المقابلة الصحافية التي تلت خسارتها أمام أُنس إن "الجماهير الحاضرة في الملعب كانت تشجّع أُنس، أما أنا فقد شعرت بمن يشجعني وهم خلف الشاشات"،
نجاح أنس ليس شأنا رياضيا فحسب، فجماهيريتها العالمية تشكلت منذ المراحل الإقصائية الأولى للبطولة، وفي ظهورها في البطولات الدولية منذ عشر سنين. في رياضة مثل التنس، يكون فيها الرياضي وحيدا في الملعب، فإن الخطوط التي تطرحها اللعبة لمسارات اللعب تجعله في سجنين: سجن المكان المحدود للحركة، وسجن الوحدة الذي يضعك فيه المشاهد، الهادئ، المنتظر، الصامت، الذي يترقّب كل انفعال أو حركة للكرة. لا صوت مدرّب ليقدم الدعم، ولا لاعب زميل سيغيّر مسار الكرة نحو مضربك، والمساحة من الجمهور تشبه المساحة من المسرح، مع مسؤولية اللاعب المفتوحة أمام المناخ، فهو دونا عن المُشاهد لا يستطيع حجب عينيه عن الشمس بنظّارات أو بقبّعة تظلّل وجهه. المشاهد هنا لا يترقّب انتهاء حركة الكرة بين لاعبَين فقط، بل سلوكهما، انفعالاتهما، انعكاس تجربتهما في بلديهما وثقافتهما. الجمهور في هذه اللعبة يتابع بشغف تصرفات اللاعبين وخلفياتهم، نظراتهم إلى الحكام، طريقة مكافأتهم لأنفسهم أثناء تسجيل النقاط، تصرفاتهم خلال فترات الاستراحة، نظراتهم إلى حاملي الكرة، المساحة والزمن المتاحين أمام كل لاعب للتحرّر من تقنية انتظار الكرة والإرسال المفاجئ.