الإغراء اليوم صار وظيفة الصورة الفائقة الكمال التي يروج لها نجوم الميديا الجديدة الذين يسمون "إنفلونسرز" والذين باتوا صناع التأثير الجمالي والثقافي والحياتي الجدد. الأثر المخيف الذي ولدته تلك الظاهرة يكمن في أنها تحرص على خلق امرأة تحيا حالة قطيعة مع نفسها ومع جمالها وتنظر إلى فكرة الإغراء كأثر تحصل عليه عبر المنتجات التي تشتريها وليس كصفة موجودة فيها لا يقوم المنتج سوى بتظهيرها وإبرازها.
ظهر خطاب يتوجه إلى الرجال والنساء بصفتهم مستهلكين فحسب، وتاليا صارت العلاقات كذلك تقوم على هذا المنطق، فلم تعد هناك دائرة من تبادل الإغواء والنظرة والرغبة في العيش ضمن ذلك العالم الذي يتشكل من لقاء الإغراء بالنظرة الراغبة المتمعنة القارئة والقادرة على تأويل ما تراه وترجمته.
تاريخ الفقد الممتد
بعد مغادرته السلك الدبلوماسي وانتقاله إلى لبنان توالت المصائب الشخصية والعامة، وبدأ الفقد يحاصر الشاعر ويشكل مسارا تصاعديا يمكن رؤية ملامحه في حاضر وطنه. في العام 1973 فقد الشاعر ابنه توفيق الذي توفي في 10 أغسطس/آب 1973 وهو لم يتجاوز عامه الثالث والعشرين، وبعد ذلك وفي شهر ديسمبر/كانون الأول 1981 فجع بفقدان زوجته بلقيس في تفجير السفارة العراقية في بيروت.
توالى تلاشي عالم المدن الذي شكل روافد شعره مع توالي الأزمات والحروب التي نشرت حالة من الترييف العميق وأحلّت العسكرة خطابا وثقافة وسلوكا في كل شيء. ولعل الشاعر في مراثيه لفقده الشخصي وللمدن كان قارئا لأحوال حاضرنا اليوم، وقد يكون كذلك قد حدس بمصيره الشخصي بعد أن صار منفيا من بلده وممنوعا من دخول معظم البلاد العربية، لذا اختار الركون إلى غربته اللندنية حيث عاش حتى وفاته في العام 1998.
في مرثيته الحساسة لابنه توفيق والتي حملت عنوان "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" (1949-1973) والتي ضمنها في ديوان "أحبك أحبك والبقية تأتي" نسمعه يصرخ:
كمئذنة كسرت قطعتين
وشعرك حقل من القمح تحت المطر
ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر.
ما انكسر بالنسبة إلى الشاعر كان الصوت والمكان والزمن الدمشقي الذي يراه قد تفتت بين يديه، وبات مثقلا بجثة ابنه التي يحملها على ظهره كأنها عالمه الذي فقده إلى الأبد.
تلك الحساسية الشفافة تحولت إلى حزن غاضب عارم ومفتوح مع اغتيال زوجته بلقيس والتي رثاها في قصيدة مطولة تحمل اسمها وتعتبر أبرز المراثي الهجائية في الشعر العربي الحديث. يفتتحها بمقطع يحمل شحنة عالية من السخرية المتفجعة:
"شكرا لكم
شكرا لكم
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمة في الأرض
- إلا نحن- نغتال القصيدة؟".
يرصد في مقطع آخر موت الكلام:
"بلقيس
يا عطرا بذاكرتي
ويا قبرا يسافر في الغمام
قتلوك في بيروت، مثل أي غزالة
من بعدما قتلوا الكلام".
ويصل إلى ذروة الغضب العارف الذي بات قادرا على كشف كل شيء، قائلا:
"سأقول في التحقيق
إني أعرف الأسماء والأشياء والسجناء
والشهداء والفقراء والمستضعفين
وأقول إني عرفت السياف قاتل زوجتي
أهمية هذه القصيدة في تاريخ نزار الشعري أنها ليست مجرد انعكاس لمصيبة شخصية تلقاها الشاعر وترجمها، ولكنها تؤرخ لمرحلة فقد المعاني والكلام. العوالم التي نهل منها في كتابته عن المرأة تشظت مع جسد حبيبته المتطاير في قلب المدينة التي طالما كانت تصنع الحياة ومفرداتها. انفجر الألم وكأنه الخطاب الأخير، فبلقيس بالنسبة إليه لم تكن مجرد زوجة وحبيبة بل كانت عالم المرأة والكلام الموصول بفكرة الرحابة المدينية وتجلياتها.
في تلك اللحظة وكما يرصد في القصيدة كان الموت شاملا وحاسما وقد أخذ معه بلقيس ومعناها وكذلك بيروت التي كان قد رثاها في ديوان "إلى بيروت الأنثى مع حبي" الصادر عام 1978 والذي يضم قصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت" التي غنتها ماجدة الرومي ولحنها الموسيقار جمال سلامة، وقصيدة "إلى بيروت الأنثى" التي غنتها نانسي عجرم بعد تفجير مرفأ بيروت عام 2020.
كل هذه القصائد كانت بمثابة توقع لكارثة تجلت في قصيدة بلقيس التي يمكن عدها نوعا من الخاتمة الشعرية المبكرة ورثاء شاملا لعالم المرأة وللمدينة العربية التي كان قباني شاهدا أمينا على ذوبان معانيها واحتراق مفرداتها.
مستودعات التعابير
ينتمي شعر نزار إلى عالم كانت العلاقات فيه تتأتى من المعرفة. الإغراء كان دعوة إلى القراءة في حين يقوم عالم "الإنفلونسرز" المعاصر على التصفح الذي لا يسمح بأي تراكم، ما يعني أنه يبني حضوره على استحالة المعرفة. المتصفح أو المستهلك لا يعرف شيئا ولن يستطيع الإحاطة بالتدفق الهائل للسلع التي تضعه في حالة نقص دائمة لا يمكن إشباعها.
حين يصبح هذا المجال صانعا للعلاقات بين الرجل والمرأة لا يمكن لعالم نزار قباني، واستطرادا لعالم الشعر، الاستمرار، ليس بالطريقة السابقة على الأقل. الجمال كان قيمة أصلية موصولة بذات المرأة ويفيض منها على العالم عبر الشالات والعطور والأقمشة. كل تلك الأشياء كانت تنبع من تلك القيمة الأصلية وتتماهى معها ولكنها لم تكن خالقتها.
في الزمن الراهن، صار الجمال والإغراء مجرد منتجات، وتاليا لم تعد المرأة تملك جمالها بل صارت تشتريه.
تفككت عوالم الإغواء واللقاء الممكنة. الرجل والمرأة الآن لا ينظران إلى بعضهما البعض ولا ينتجان علاقة بل يستهلكان بعضهما البعض. العلاقات تتشكل على الشاشات حيث لا مجال للانتباه والتمعن ولا للمشاعر.
يقول نزار على لسان امرأة في إحدى قصائده الشهيرة التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها نجاة الصغيرة:
"حتى فساتيني التي أهملتها
فرحت به.. رقصت على قدمي"
زمن الفساتين التي تفرح وترقص أصبح جزءا من عالم الأمس، وفساتين أيامنا بلا مشاعر على الإطلاق وباتت مجرد سلع، وهذا الوصف ينطبق على العلاقات التي باتت أقرب إلى مفهوم الصيد والافتراس. في مثل هذا العالم تتقلص الحاجة إلى اللغة كوسيلة تعبير، فما بالك بالاستعمال الجمالي والرمزي المكثف لها في الشعر. التواصل اللغوي يعاني من مشكلة كبيرة مع توسع الأيقونات الدالة على المشاعر "الإيموجي" وظهور تفريعات وتنويعات كثيرة عليها لتصبح أكثر تحديدا ودقة.
مشاعر الغضب والحزن والفرح صارت محددة ولم تعد تحتاج إلى قراءة شعرية وتمثل لغوي بل باتت شديدة الوضوح والإيجاز والعمومية ولا مجال فيها للخصوصية.
لقد بات الناس أمام مستودعات تعبيرات عن المشاعر يمكنهم استخدامها كبدائل عن اللغة. عالم نزار قباني يميل إلى الاختفاء أمام سطوة هذه الواحدية الشاملة في التعبير التي تصادر دور اللغة في المجالين العام والخاص، وتستبدلها بصور وأيقونات تزعم أنها قادرة على الإحاطة بشتى الانفعالات والمشاعر.
العالم حالة شعورية
الشاعر نحات المشاعر، ومفجر الانفعالات، والباحث في طبيعتها وأشكالها، وراصد حركتها ومساراتها، ومهندس الصور والتراكيب التي تعبر عنها، لم يعد اليوم يمثل حاجة جوهرية. المشاعر على غرار كل شيء صارت منتجا استهلاكيا مستقلا عن الناس.
"الوجود ليس سوى ما نشعر به"، هذه الخلاصة التي خرج بها نزار بعد أكثر من 40 ديوانا وكتابا. وكان قد كشف عن تصوره للعالم في مقطع من قصيدة تحمل عنوان "مخطط نزاري لتغيير العالم" منشورة في ديوان "هل تسمعين صهيل أحزاني" الصادر عام 1991 يقول فيه:
"أشيلك يا ولدي فوق ظهري" أريد أن أستلم السلطة يا سيدتي
ولو ليوم واحد
من أجل أن أقيم
جمهورية الإحساس".
"جمهورية الإحساس" لم تعد ممكنة بقدر ما باتت ضرورة قصوى، عالم التسارع المتوحش جعل نتاج نزار يتقادم بسرعة كبيرة ويبدو عاجزا عن إنتاج الأثر، ولكن قد يمكن التفكير في أن تعبا كبيرا وشاملا سيصيبنا قريبا ويدفع بنا إلى العودة لمصادر السكينة والتمهل والنظرة اللغوية إلى الحواس والعيش والوجود.
سيكون عالم نزار الشعري بانتظارنا حيث سنقرأه ونكتشفه من جديد وحينها سيكون الحكم على تجربته متاحا، أما الآن فقد يكون الحكم على أي تجربة شعرية عسيرا وممتنعا في عالم طارد للشعر والمشاعر.