ما يكتبه الشاعر العماني سيف الرحبي، وما ينتجه من كتب حول التنقلّ بين المدن، وأسفاره العائلية، هي تجوالاتشيقة تهب خصوبتها التأملية للقارئ، صحبة قصائده في نهاية السفر، سفر الكتاب. وعلى الرغم أنه يزور المدن نفسها التي يزورها الناس، لكنه يطرح بلغته الشعرية البديعة، ونثره المؤثر أهم قضايا العالم التي تحمل تأثيرات نزوات الإنسان على طبيعة المكان المعاش، من أوبئة وحروب، وجنون الإنتاج، مروراً بأنواع الأشجار التي أهمل الإنسان المسافر الحديث عنها والاهتمام بشخصيتها الخضراء، بوصفها أرواحا حاضرة ومسلوبة، لينتقل الرحبي إلى طبيعة تنتقل معه، من حيثما خطا خطواته التأملية، لتأتي الأسطورة، ويحكي قصتها، ويربطها بما يتوافق مع تأمله المطروح في مكان لا يُعنى بمكان الأسطورة إنما بالمشترك الإنساني المشابه عبر العصور.
أمّا تلك الحيوانات الأليفة والضالة، والعصافير من حوله، فيصفها الرحبي ثم يطرح أسئلة ينقلها ببراءة وعمق في آن، لينبّهنا كقراء كيف نأتي إلى فضاء الشوارع وما بها من كائنات لا نريد أن نراها، ولا نرغب في إدراك مشاعرها، في خضم الصراعات التي نعيشها، حتى يظهر الدرس العميق في مأساة البشر، دون أن تلحق المغفرة بالنفوس، في أصالة غائبة، ويزدهر النثر في عناوين وكتب، يكتبها كشاعر ومفكر وإنسان، مع قصص تخرج من هذا العالم البائس بحروبه، والمفعم بجماله غير الثابت، فيتجلى لنا سيف الرحبي من أكثر المفكرين المعاصرين المرهقين روحياً، وأكثرهم حظاً بأن تلهمه الطبيعة، ليحولها إلى كتابات عميقة وسهلة يمكن حتى الناشئة التفاعل معها، دون الوقوع في يد الآلة والاستهلاك في هذا العالم الجشع.
في تلك النصوص النثرية الشعرية والفكرية، يغفر الكاتب وينسى، ويمنع نفسه من أن يكون فظاً، وينأى بنفسه عن الشهرة الزائفة، فلا ينافس أحداً، ولا ينافسه أحد، في عزلته الواسعة حيث يكتب، ويستمتع وينشغل، كي لا يصبح ضحية اسمه، محافظاً على حريته المعرفية، وتأملاته المكتسبة، يوماً بعد يوم، في كتاباته التي تدخل في الصميم، وهو يربط الأسطورة بالطبيعة، بالفعل الإنساني، بالأخطاء، بالحمق المتكرر، وبشخصيات بشرية لا تتغير رغم السنوات، سوى في أجسادها، وكأن النضج مغترب عن الأرواح، في الماضي والحاضر والمستقبل، فلا فارق، وكأن السلب العظيم مستمر مع الخير والشر.
في تلك النصوص النثرية الشعرية والفكرية، يغفر الكاتب وينسى، ويمنع نفسه من أن يكون فظاً، وينأى بنفسه عن الشهرة الزائفة، فلا ينافس أحداً، ولا ينافسه أحد، في عزلته الواسعة حيث يكتب، ويستمتع وينشغل
كُتُب سيف الرحبي الأخيرة، والتي تأتي من تلك الأسفار الصيفية والشتوية، كلها تأملية شعرية فكرية، وهو يتبدّى فيها مستسلما في طرحه، أثناء مشيه وجلوسه بين الفندق والسوق، وبين الأشجار وطريق الوصول إلى النافورة، ثم المقهى، ثم العودة إلى الفندق، وهذا فعل طبيعي لأيّ مسافر، لكنه يبحر كتابةً، من تلك المشاوير العادية إلى العالم كله، متحدثاً مع القارئ وكأنه في ألفة معه، يجالسه، ويواجهه، في حديث صامت بقدرة منسابة، متوغلاً في الحب والجمال والحرية والصداقة، مبحرا في مشاكل العالم، وكأن القلق نور وحاجة.
حتى جفاف الأحلام، كوابيسه في السفر، فإنه يفسرها بجفاف النسغ الذي يغذي الوجود، فالتاريخ الطويل فيه من الشروخ والتصدعات والانعطافات والأنماط والسلوك الانفصالي، ما يؤهل صنع قطيعة بين البشر والطبيعة، وكلما أفاق الشاعر صبحاً في سفره، تستفيق معه كلماته التي تأخذك إلى أمر جديد، للتبصر في الخير الجميل، والشر القبيح، مقتبساً، متبصراً الطبيعة بكل الطرق، والتشاحن الداخلي كلما رأى كائناً لطيفاً، دون تشتت، متأملاً الهواء وهو يشهق بصعوبة كالكائنات الضعيفة الخائفة، رابطا علاقة الطبيعة بالعمل والقول، فيأخذنا إلى اللا معقول، وكأننا جزء منه، نرافق رحلته اللا منتهية، لتنتهي بالشعر، مع كل ما هو موافق للطبيعة، فمعه نقرأ أن الخلود وَهْم، والبقاء فقط للطبيعةِ التي تمطر أفكاراً مضيئة.