أولئك الذين تدفقوا أمس إلى صالات السينما لمشاهدة "أوبنهايمر"، ورؤية نظرة كريستوفر نولان الملحمية متجسّدة في الانفجار النووي في هيروشيما وناغازاكي، بجماليات بصريّة مذهلة، لم يحصلوا على ذلك، ولكن على الأرجح لم يخب أملهم في الوقت نفسه، فقد تسنّت لهم مشاهدة نولان في واحد من أفضل أعماله وأكثرها طموحا، لا سيما لناحية البنية السردية التي لم يعد كثر من السينمائيين قادرين على تحقيقها، من دون التخلّي عن توقيع نولان المشهديّ والإيقاعي الخاص الذي وسم بعض أبرز أعماله، من ثلاثية "باتمان" إلى "ميمنتو" و"إنسبشن" مرورا بـ"أرق" و"البرستيج" وصولا إلى "إنترستلر" و"تينيت".
منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها هذا المشروع الضخم، كان السؤال كيف سيتمكن نولان من نقل واحدة من أفظع محطات البشرية وأكثرها إثارة للجدال، أي اختراع القنبلة الذرية، ثم استخدامها خلال الحرب العالمية الثانية، إلى الشاشة؟ هل يمكن للصور، وقبلها ومعها الكلمات، التوغّل إلى أعماق هذا الكابوس الحيّ الذي أنتجه البشر بأيديهم، والذي لم يحوّل الأحداث (الحرب العالمية) في العالم الذي نعرفه بصورة جذرية، بل نقل البشرية إلى عالم جديد تماما، كما يقول "أبو القنبلة الذرية" روبرت أوبنهايمر لألبرت أينشتاين في أحد مشاهد الفيلم المحوريّة؟
الجواب واضح: عند نهاية الساعات الثلاث التي يستغرقها الفيلم، ومن دون رؤية أيّ من فظاعات القنبلة الذريّة، ولا استعادة مناظر الدمار والجثث، لا يستطيع المرء أن يتجاوز بسهولة تلك القشعريرة التي تسري في جسده كله، ولا ذلك الشعور الغامر بالحزن والرهبة القاهرين معا. الحزن، إذ يذكّرنا الفيلم بما نودّ جاهدين نسيانه، وهو الجريمة الهائلة الأبعاد و"غير الضرورية" على الإطلاق التي ارتُكبت ضدّ الإنسانية، حين قرّرت الولايات المتحدة الأميركية حسم الصراع في الحرب العالمية الثانية لصالحها، باستخدام القنبلة الذرية على مدينتين يابانيتين. والرهبة، إذ نتذكّر أن خطر استخدام أسلحة الدمار الشامل لا يزال ماثلا بقوة، ما دامت هذه الأسلحة موجودة، بل وأكثر فتكا وعددا، وما دام هناك مجانين يحكمون العالم ويتحكّمون بالأزرار التي قد تكرّر مأساة هيروشيما وناغازاكي، إنما بأبعاد أضخم بما لا يقاس هذه المرة. وما سيفُ استخدام السلاح النووي المسلط على رقبة البشرية، في خضم حرب روسيا على أوكرانيا، سوى تذكار بسيط بالتهديد الدائم الذي باتت البشرية تعيش في ظله.