"شويخ من أرض مكناس وسط الأسواق يغني"... من منا لم يستمع إلى تلك الأغنية ويترنم بكلماتها، تلك التي طبقت شهرتها الآفاق، وارتبطت بالذائقة العربية، وشكلت رابطا جميلا بين الفن الخليجي بلحنه وطربه وذوقه، والتراث الأدبي المغاربي.
قد يظن المستمع أنها تعود إلى فولكلور عربي، نظرا إلى كلماتها وألفاظها التي تمزج بين العامية والفصحى، وكأنها قريبة جدا من حديثنا الشائع اليوم، إلا أن المفاجأة أن قصيدة "شويخ من أرض مكناس" عمرها أكثر من سبعة قرون، فهي تعود إلى العصر الأندلسي في منتصف القرن السابع الهجري، وتعد واحدة من بواكير الزجل الصوفي الأندلسي الذي وضع أسسه أبو الحسن الششتري المتوفى سنة 668هـ، أحد أبرز أعلام التصوف في الأندلس والمغرب.
وقد قام الفنان البحريني العبقري، خالد الشيخ، بنبش هذه القصيدة من بطون كتب التراث العربي، وحين قرأها، شدته تلك الكلمات، فلحنها، وغناها الفنان الكبير أحمد الجميري عام 1982 لتخرج لنا في نموذج بديع يعبر عن ثراء التنوع الثقافي في الأدب العربي، وصلة تربط الشرق بالغرب. انتشرت تلك الأغنية، وتناقلتها الأجيال، فهي لا تشيخ ولا تتقادم، حملت بين طياتها لوحة فريدة من وجهين، اللحن الخليجي المميز الذي ارتبط بها، وعمق التراث العربي المغاربي الأندلسي في كلماتها، حتى أصبح كل وجه لا ينفك عن الآخر.
يبدو أن خالد الشيخ وقع في غرام أزجال الششتري، فقدم قصيدة صوفية أخرى من بدائع هذا الأخير، "كلما كنت بقربي"، ثم أتبعها بـ"ألا يا مدير الراح". وليس ذلك بمستغرب على الفنان المرهف خالد الشيخ، فهو صاحب الصوت الدافئ والألحان العميقة، والاختيارات المميزة، يؤمن بأن الفن لا ينفصل عن الهوية والثقافة والأدب، وأنه من أسمى تجليات نهضة الأمم ورقيها.
تبدأ الحكاية مع أبي الحسن الششتري، وهو علي بن عبداللّه النميري الششتري اللوشي، ويكنى أبا الحسن، والنميري نسبة إلى نمير، بطن من بطون هوازن، والششتري نسبة إلى ششتر، وهي قرية بوادي آش بالأندلس، واللوشي نسبة إلى لوشة قرية في الأندلس أيضا، ويبدو أن الششتري أمضى فيها جانبا من طفولته. ومن خلال هذه الألقاب الواردة في اسمه نجد الطريقة العربية القديمة في إضفاء ألقاب متعددة على الأعلام، والغرض من ذلك تحديد هوية الشخص بدقة حتى لا يختلط مع شخص آخر، حيث نجد هنا ذكرا لقبيلته بني نمير ثم قرية أهله ششتر، وقرية لوشة التي نشأ فيها، وغير ذلك مما نجد له نظائر وأشباها في كتب التراجم وسير الأعلام.
ويبدو أنه كان ينتمي إلى عائلة ذات وجاهة ومكانة من علية القوم، حيث يشير ابن عجيبة في "إيقاظ الهمم" إلى أنه كان وزيرا وعالما، وأن أباه كان أميرا. ويذكر ابن ليون: "كان من الأمراء وأولاد الأمراء، فصار من الفقراء أولاد الفقراء". ولد سنة 610هـ، حفظ القرآن منذ صغره، وسلك مسالك العلماء المسلمين، فدرس الفقه، ثم انتهى به المطاف إلى دراسة الطرق الصوفية واعتناقها. وصفه المقري التلمساني في "نفح الطيب" بأنه: "عروس الفقهاء، وأمير المتجردين، وبركة لابسي الخرقة، وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش، وزقاق الششتري معلوم بها، وكان مجودا للقرآن، قائما عليه، عارفا بمعانيه، من أهل العلم والعمل، جال الآفاق، ولقي المشايخ، وحج حجات، وآثر التجرد والعبادات". ويذكر الزركلي أن الششتري كان يتنقل في البلاد، وكان يتبعه في أسفاره أكثر من أربعمائة فقير يخدمونه. توفي قرب دمياط بمصر سنة 668هـ ودفن فيها. ومن كتبه "العروة الوثقى" في بيان السنن وما يجب أن يفعله المسلم، و"المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية"، وله "ديوان شعر" قال فيه الغبريني: وشعره في غاية الانطباع والملاحة وتواشيحه ومقفياته ونظمه الهزلي الزجلي في غاية الحسن.