انسحاب روسيا من اتفاق البحر الأسود لتصدير الحبوب نذير شؤم حول ما ستسير عليه الحرب في أوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة، ذاك أن الاتفاق الذي مضى عليه عام، انطوى على معان عدة يطيح الموقف الروسي الأخير بها جميعا.
واحد من أهم معاني الاتفاق الذي جرى التوصل إليه برعاية تركية وأممية، كان إخراج القمح وهو سلعة استراتيجية من الصف الأول، من الصراع الروسي- الأوكراني وإزاحة شبح الجوع عن الدول الأكثر فقرا وتأثرا بالتغيرات المناخية التي تنعكس جفافا قاسيا وانخفاضا في معدلات الإنتاج. هذا الشبح عاد بقوة حيث يعيش العالم واحدا من أكثر مواسمه الزراعية سوءا بسبب الارتفاع القياسي في درجات الحرارة. وهو ما عبّر عنه كبير موظفي وزارة الخارجية في كينيتا كورير سونغ أووي الذي وصف القرار الروسي بـ"الطعنة في الظهر" نظرا إلى انعكاساته على الأسعار العالمية في هذه المرحلة الحرجة.
من أهم معاني الاتفاق الذي جرى التوصل إليه برعاية تركية وأممية، إخراج القمح من الصراع الروسي- الأوكراني وإزاحة شبح الجوع عن الدول الأكثر فقرا وتأثرا بالتغيرات المناخية
من ناحية ثانية، يحول سحب الضمانات الأمنية الروسية للسفن التجارية التي تعبر الممرات الآمنة المتفق عليها دون استمرار حركة الملاحة؛ فقد تذرعت موسكو بأن الأوكرانيين يستخدمون تلك الممرات "لأغراض قتالية" ضمن الأسباب التي ساقتها لخروجها من الاتفاق. ما يقود إلى الاستنتاج بأن أية سفينة تبحر في الممرات ستكون هدفا للقوات الروسية التي قال مجلس الأمن القومي الأميركي إنها بدأت بالفعل بنشر ألغام بحرية في المنطقة.
وغداة إعلان الانسحاب، تعرضت مدينة أوديسا، المرفأ الأوكراني الرئيس على البحر الأسود إلى عملية قصف مكثف بالصواريخ والمسيرات الروسية مما أدى إلى إلحاق دمار واسع بالبنى التحتية المخصصة لتصدير الحبوب وتدمير ستين ألف طن من القمح الأوكراني كانت على أهبة الشحن إلى الخارج.
أرجع الروس قصف أوديسا إلى تعرض جسر كيرش الذي يربط شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو بعد احتلالها في 2014 والبر الروسي، إلى هجوم بمسيرات بحرية أسفر عن تعطيل جزئي للجسر ومقتل شخصين. ويتسم الجسر بحيوية استثنائية بالنسبة إلى الروس الذين يستخدمونه للغايات المدنية والعسكرية إضافة إلى أنه يعتبر شريان الحياة لشبه الجزيرة التي سيضطر سكانها في حال خروجه من الخدمة إلى العبور في الأراضي التي احتلتها القوات الروسية بعد بدء الحرب والتي تعتبر غير آمنة نظرا إلى وقوع هجمات من عناصر أوكرانية متسللة عليها.
في سياق متصل، وضع الرئيس فلاديمير بوتين الانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب ضمن الانزعاج الذي تشعر به موسكو من العقوبات الغربية عليها؛ إذ تضمنت الشروط التي حددها بوتين للعودة إلى الاتفاق، إعادة المصارف الروسية المشاركة في النشاط الزراعي إلى نظام "سويفت" المصرفي الدولي والسماح باستيراد معدات وقطع غيار الآلات الزراعية وبعض الشروط المالية وتلك المتعلقة بتصدير الأسمدة الكيماوية الروسية.
وضع الرئيس فلاديمير بوتين الانسحاب من اتفاقية تصدير الحبوب ضمن الانزعاج الذي تشعر به موسكو من العقوبات الغربية عليها
ومن دون القفز إلى استنتاجات كبيرة، يجوز القول إن الخطوات الروسية بقصف أوديسا والانسحاب من اتفاق الحبوب والاستعداد لتحمل الانتقادات سواء من المنظمات الدولية على ما فعل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أو من مسؤولي الدول المستوردة للحبوب والتي يعاني أكثرها من اضطراب الأسعار بسبب الجفاف الذي أضاف عبئا جديدا عليها، يجوز القول إن الخطوات الروسية تشي بضيق في القيادة داخل الكرملين من مسار الحرب في أوكرانيا والرغبة في إعادة تجميع الأوراق التي يمكن بواسطتها رفع مستوى الضغط على كييف وحلفائها.
السؤال هنا، هل سيكون لوقف تصدير القمح الروسي والأوكراني التأثير ذاته الذي تركه في الأشهر الأولى من الحرب بعد 24 فبراير/شباط 2022؟ وهل ستهرع الدول التي عملت على التوصل إلى الاتفاق السابق إلى البحث عن مخارج من الوضع الحالي؟
في الإجابة على السؤال الأول، لا زالت غير واضحة مفاعيل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأوكرانية لضمان عدم تكرار منعها من تصدير القمح، أحد الموارد الرئيسة للعملة الصعبة إلى البلاد. فقد أعلنت أن خط تصدير عبر الموانئ الرومانية سيبدأ العمل قريبا، في حين قالت السلطات البولندية إنها ستلتزم بقرار الاتحاد الأوروبي حظر مرور القمح الأوكراني عبر أراضيه. أما السؤال الثاني فتنتظر الإجابة عليه قراءة التحولات في مواقف تركيا، المحرك الأبرز للاتفاق السابق، التي يبدو أنها تخفف من حرارة علاقاتها من روسيا لمصلحة تعزيزها مع كييف والغرب.
مهما يكن من أمر، فإن الانسحاب الروسي من اتفاق تصدير الحبوب يعلن أن الحرب بعيدة عن نهايتها وأن المزيد من الروس والأوكرانيين ومواطني الدول التي تعتمد على القمح المستورد من البلدين سيعانون من تبعات الحرب، سواء من أضرارها المباشرة أو من تشريع أبواب الغلاء وشح الخبز وارتفاع أسعاره.