سبعون عاما من العبث

سبعون عاما من العبث

حين تمضي في شوارع باريس، أزقتها ومحطّاتها، وتلاحظ وجود المشرّدين والمتسولين، ستتأكّد أنّك في عاصمة العبث فعلا، ولا أعني هنا مسرح العبث الذي بدأ مع مسرحية صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" قبل سبعين عاما، وإنّما العبث كحياة يومية لها طرائقها المرئية وغير المرئية.

بعد عرض مسرحية بيكيت في عام 1953 قيل إنّها بداية لمسرح العبث أو اللامعقول، بينما رأى آخرون أن العبث كان بدأ منذ زمن طويل ليس من خلال نصوص فكرية وأدبية فحسب، وإنما عبر وقائع وأحداث حروب عبثية ولا معقولة. وقيل إنّ هذه الوجهة التي تعمّقت مع كتابات أخرى ليوجين يونسكو وألبر كامو، عبّرت عن حال اللاجدوى أو اللاشيء واللامعنى الذي صاحب سقوط المفاهيم العقلانية الكبرى في كل مستويات ممارساتها الاجتماعية، بدءا من تلك الآلات الحربية التي دمّرت ملايين البشر وليس انتهاء بخواء الشعارات الأخلاقية التي كانت تُسمع كل صباح ومساء.

لكنّ العبث، في مستواه الممارَس، لا ينتظر نهاية له، إلاّ إذا كنّا نظن أن غودو سيصل، فها نحن نجده يتوغّل في الحياة اليومية شرقا وغربا حيث يصاب الجميع بحمّى التنافس في كلّ شيء، بما في ذلك القتل والموت.

لن نذهب بعيدا عن العاصمة التي أتت بمعنى للعبث حيث لا معنى لكلّ شيء، باريس التي تحمل مجمل التناقضات، إذ يمكنك أن ترى فيها أجمل الوجوه والأشياء كما سترى ما لا يسرّك رؤيته أو سماعه، وما يبهجك أو يؤنسك قد لا يكون كذلك عند الآخر، ولذا فإنك ستعتاد المراوغة في القول وأنت تتحدث عنها مع الآخرين الذين ستبدو لهم أنك لم تقل شيئا عنها.

يفاجأ زائر باريس بسلوكيات ومشاهد لم يتوقعها، فيكاد ينكر أنّه في المكان الحلم الذي كان يتمنّى زيارته، ويعود لتذكر ما كان قد قرأه ولم يصدّقه عن صدمة "متلازمة باريس" النفسية التي تصيب بعض الزوّار 


يفاجأ زائر باريس بسلوكيات ومشاهد لم يتوقعها، ومع التحذيرات الكثيرة من اللصوص يكاد أن ينكر أنّه في المكان الحلم الذي كان يتمنّى زيارته، وسيعود لتذكر ما كان قرأه ولم يصدّقه عن صدمة "متلازمة باريس" النفسية التي تصيب بعض الزوّار حين لا يجدون الواقع متطابقا مع تصوّرهم المكتسب عن المدينة. 

هذه الصدمة، كما تبدو لي، لا يمكن الشفاء منها إلا بالعيش بضعة فصول أو سنوات في باريس، فحينها سيرى المقيم، مثلا، أن التشرّد بقدر ما يعاني منه كثيرون بسبب الفقر، هناك من يمارسه كطريقة حياة لا بديل منها، وهؤلاء يرفضون العمل أو حتى التسجيل في جمعيات الرعاية الاجتماعية والصحّية، ويفضّلون العيش في الشوارع والنوم في محطات المترو والأزقة والحدائق، بل إن محطات المترو تفتح أبوابها، في ليالي فصل الشتاء، للذين يلجأون إليها هربا من البرد، وفي سنوات سابقة فُتحت مقارّ البلديات لينام فيها اللاجئون والمشرّدون أيّام البرد، ولا غرابة إذا وجدت أحدهم نائما داخل كيس في الشارع بعدما تناوش مع الشرطة رافضا أن يذهب معهم إلى أي مكان ينام فيه.

في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في مدينة ليموج الفرنسية إثر وفاة متشرّد يسمونه بيار الأوبرا Pierre de l'Opéra  اشتهر بطلبه الدائم اثنين يورو من العابرين ليشتري جعة أو فطيرة، كما اشتهر أيضا بوسامته السوداء وبحواراته الحكيمة مع العابرين. كان يقول إنه كاتب أيضا، مع أنني لم أجد له أي أثر، لكنه موسيقي يعزف للعابرين على بيانو عمومي في محطة قطار المدينة التي صُنّفت الأجمل في فرنسا.

اجتمع يومها أبناء المدينة بصورة لافتة وهم يودّعون نجم شوارعهم الطيب الذي لا يردّون له طلبا إلا إذا لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فتوافدوا إلى مكانه المعتاد في الشارع لإشعال الشموع وكتابة كلمات التحيّة له.

هكذا نجدهم يحوّلون المسرح العبثي إلى واقع معيش، حيث يلتفت إلى سلوكهم الكثيرون عبرقنوات التلفزيون، في الوقت الذي يتراجع فيه الاقبال على مسرح العبث لصالح المسرح الفكاهي الفردي


هذه الصورة الورديّة للتشرد ليست مكتملة، حيث يبقى دليلا، أيضا، على الفقر واللامساوة، أو دليلا على العبث في أحد مستوياته الكثيرة. لكن المشرّدين لا يمارسون العبث العنيف الذي نجده في كل مدن فرنسا عند أيّ مناسبة أو فرصة، إذ لم تقتصر التظاهرات على طلبات أصحاب السترات الصفر أو المتضررين من قانون التقاعد، وإنّما شملت مناسبات الأعياد الوطنية والعمّالية وحين يفوز المنتخب الوطني لكرة القدم أو يخسر، وهي تظاهرات يصاحبها التكسير والسرقات والحرائق، حتى بدا الأمر أسلوبا فرنسيا في التعبير. قالت سيّدة بريطانية، في تصريح صحافي، إنّها تحسد الفرنسيين على حيويّة هذا التعبير، أو على قدرتهم الدائمة على الاحتجاج.

هناك مبرّرات كثيرة يمكن أن تساق عن مسببات جانب العبث في الاحتجاجات، أحدها تنامي التعاضد بين الفئات المهمشة في مختلف ضواحي المدن الفرنسية التي في معظمها تقوم بأعمال صعبة وهامشية ولأسباب اجتماعية تتحوّل مساكنها إلى أوكار رئيسة لبائعي المخدرات واللصوص الذين لا تروق لهم سلوكيات الشرطة المتتبعة لنشاطهم، ولذلك ينتظرون أيّ  شرارة تحفزهم على الخروج إلى الشارع للانتقام من الشرطة ومن كلّ  شيء.

هؤلاء لا يعبأون بباريس الموضة والعطور والفن ومتحف اللوفر وبرج إيفل، وكل ما يهمّهم إيجاد فرصة للعيش كيفما اتفق، ولو كان الثمن حياتهم. إنّهم يشبهون شخوص مسرحية "الخادمات" لجان جينيه، حيث تقتل الخادمة رفيقتها التي لبست قناع السيّدة ومارست دورها. هكذا نجدهم يحوّلون المسرح العبثي إلى واقع معيش، حيث يلتفت إلى سلوكهم الكثيرون عبر قنوات التلفزيون، في الوقت الذي يتراجع فيه الاقبال على مسرح العبث لصالح المسرح الفكاهي الفردي الذي يبث عبر منصّات مختلفة ويقول كل شيء بلغة واضحة وجارحة لم يعتدها المسرح القديم.

font change