في حصة اللغة العربية، سألتنا المعلمة: من مَثَلُكُم الأعلى؟ وبالنسبة إلى صبي في التاسعة يرى لَعِبَ الكرة في الشارع ليس محضَ تسلية، بل العالمَ كلَه، فإنني لم أختر شخصية دينية أو بطلا خارقا. بقيتُ صامتا أسمع إجابات صحبي وأنقذني جرس الفرصة من الجواب.
حين وعينا على فكرة المنتخب الوطني كان العراق مُعاقَباً من "الفيفا" بسبب غزو الكويت. لم نلعب منذ سبتمبر/أيلول 1990. حُرم العراق من لعب تصفيات كأس آسيا 92، وأولمبياد برشلونة، والدورة العربيّة في سوريا. لم تُتَح لنا، صبية ذلك الزمان، رؤية نجوم الدوري يتوحّدون في قميص واحد، يردّدون النشيد، ويقارعون الفرق الأخرى.
وفجأة، وفي 18/8/1992، وجدتُ نفسي وجها لوجه مع أفراد منتخب البلاد. لَعِب العراق أمام أثيوبيا أولَ مباراة بعد الحظر الدوليّ على ملعب مدينة إربد في بطولة الأردن الدولية التي ضمت ثماني فرق وأقيمت تحضيرا لتصفيات كأس العالم 1994. في تلك الليلة التقيت بطلي، وعرفت مثلي الأعلى!
كنتُ عند جدّتي لأمي حيث تعوّدت المبيت عندها بعض ليالي الأسبوع. حقّق الفريق العراقي ليلتها أعلى نتيجة فوز في تاريخه 13- صفر ضد أثيوبيا. سجّل أحمد راضي خمسة أهداف منها (شريط المباراة على يوتيوب يبين أنه سجّل ستة أهداف). حتى اليوم لم يستطع لاعب عراقي كسر هذا الرقم. سجل أحمد خماسيّته من كل مكان في صندوق الجزاء، وبكل الطرق. عَبَر فوق الحارس؛ سدّد بيمينه متزحلقا؛ وسدّد بيساره واقفا. وسجل هدفا هو نسخة الهدف الجنوني لريفالدو البرازيلي على تركيا في مونديال 2002. قبل ريفالدو بعشر سنين استقبل أحمد كرة عالية من يمين الملعب ليخمدها بصدره ويدور مع حركتها ملتفّا مثل راقص باليه ويلمسها بيمنه مهيئا الكرة للتسديد ثم يضعها باليسرى على يمين الحارس، لم يكن هدفا بقدر ما كان رسمة بضربات رشيقة لبيكاسو، أو قفلة بالغة الرقة لموتزارت. أما هدفه الخامس فبدا فيه لاعب سيرك، واثقا، يمشي على الحبل مغمض العينين، تسلم كرة في مساحة ضيقة وتخلص بخفّة من التحام المدافع العنيد ليراقص الحارس ويراوغه مودعا الكرة من زاوية ضيقة. لا يريد هذا النورس أهدافا عادية، كأنه لفرط ما اعتاد هزّ الشباك بات ملولا بالعاديّ، المكرور منها، متحريا النوعيّ، والفنيّ، والمعجز فيها.
منذ تلك الليلة، تولّد عندي ارتباط غامض، بالغ الحساسيّة، بذلك اللاعب الذي خطف قلوب العراقيين، وبحّت تشجيعا له حناجر الجماهير، واستُنفدت صيحات المعلق الشهير مؤيد البدري، وأعلن أول انتصار لهم بعد سلسلة هزائم سياسية واجتماعية. كان فوزا كاسحا عكس الكبت القاهر الذي اجتاح المواطن العراقيّ وهو يرى العالم كله، يجتمع ويُجمع على حربه وحصاره، وهو مسلوب الإرادة من سلطة لا ترحم، تتحكّم في مصيره.
كان أحمد راضي نموذجا فريدا اجتمعت فيه النقائض الضديّة لصورة البطل أيقونيا. فقد كان نحيلا، ضعيف الكتلة العضليّة، بوجه يبدو عليه الإرهاق المزمن، لكنه في الوقت نفسه مألوف، وسيم، ومسالم. عكس الصورة النمطيّة عن البطل الرياضي الضخم الجثة، المفتول العضلات، المتورّد الوجه، بتقاطيع حادّة، ونظرة جديّة لا تسامح فيها. كان أحمد راضي قليل الحركة، نادر الالتحامات، خاملا. لكن ما إن تصله الكرة حتى يتحوّل إلى صقر لا يُخطئ فريسته. أنت وقتها على موعد مع مفاجأة تأخذك من لحظتك الأرضيّة إلى فضاء الدهشة. مثل شاعر يبدأ قصيدته بكلام عاديّ جدا، لا شعر فيه، ولا استعارة، وقبل أن يتسرّب اليك الملل، تماما قبل أن ينتهي السطر، يقلب المعادلة كلها بكلمة واحدة. ويتركك فاغر الفم، مضطرب النبض. رأيت أحمد راضي، ليلتها، شاعرا يكتب بقدميه.
لكن سيرة تميّز أحمد راضي أميش الصالحي بدأت قبل هذا الموعد بكثير. مثل أي موهبة خارقة، شقّ الفتى طريق المجد بسرعة لا تُصدّق، وكان أول لاعب عراقي يُستدعى إلى المنتخب الأول من فريق شباب النادي!