على غرار كل صيف وكل موسم أعياد منذ الانهيار الكبير في 2019، يبدي عدد من اللبنانيين دهشتهم من ازدحام الشواطئ والمطاعم وأماكن اللهو والترفيه. عشرات الآلاف من المغتربين العاملين في الخارج يعودون في أيام العطل ويجلبون معهم قدرا من الحيوية التي يحتاجها بلدهم بشدة.
ويخرج البعض باستنتاجات "ماكرو- اقتصادية" من حالة الانتعاش الموسمي هذه. فتجد على مواقع التواصل اللبناني تأكيدات على أن "لبنان لا يموت"، وأن " ليست هناك أزمة في لبنان، بدليل أن المطاعم التي تفرض أسعارا تفوق تلك التي تطلبها نظيراتها في أغلى مدن العالم، تظل مليئة بالرواد وأن حفلات الزفاف لا تتوقف في الفنادق الفخمة والصالات المخصصة للمناسبات السعيدة فيما تبلغ التكاليف حدود السماء.
ويتبارى المصطافون في رصف صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بصورهم العائلية وهم في المسابح (التي يخالف أكثرها القانون ويسيطر أصحابها على الملكية العامة بفعل الاستقواء بزعامات سياسية)، أو في قرى الاصطياف والمواقع السياحية، مع ابتسامات عريضة واستعراضات تليق بالأغنياء الجدد قليلي الخبرة في أصول الظهور الاجتماعي وعديمي الثقافة.
أين الأزمة إذن؟ ولمَ هذا التشاؤم عند البعض؟ أليس في ذلك محاولة لإحباط "حب اللبنانيين المتأصل للحياة" ومنعا للمستثمرين من المجيء إلى البلد وضخ بعض المال في شرايينه الجافة؟
في البدء، يتعين القول إن اصطناع "لغز" حول الانتعاش الاقتصادي المزعوم، يدخل بدوره ضمن مظاهر الأزمة العامة. ذاك أن الإصرار على فرادة لبنانية ما، سواء في الازدهار السابق على الحرب الأهلية أو في مستويات التعلم والارتباط الوهمي بحضارة قديمة ومتخيلة وربطها بالحضارة العالمية السائدة أو– في المقابل- الإصرار على الانتساب الشكلي إلى أصحاب ثروات في دول عربية معينة، مكون أساس من مكونات الشخصية اللبنانية الباحثة دائما وعبر مختلف ألوان الطيف الأهلي، عن مصادر قوة ومنعة وغلبة لا تدين بها إلى مصادر مُنتجة ذاتيا أو محليا. واستعراض الثروة أو القوة وإبراز القدرة على ممارسة العنف، من الآفات القديمة في الاجتماع اللبناني.
ثمة أفراد يعيشون حياة مرفهة ويمثلون مجموع اللبنانيين. هكذا يقول التفسير السطحي لصور المصطافين والمشاركين في الأعراس والرحلات على متن يخوت أصحاب الملايين
يحول هذا الإصرار دون رؤية المجال العام كما هو في الواقع؛ فثمة أفراد يعيشون حياة مرفهة ويمثلون مجموع اللبنانيين. هكذا يقول التفسير السطحي لصور المصطافين والمشاركين في الأعراس والرحلات على متن يخوت أصحاب الملايين.
بيد أن الحقيقة في مكان آخر. العجز عن رؤية الصورة العريضة بمكوناتها المتناقضة والمتجاورة في آن، لا ينفي أن لبنان يمر بأسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية في تاريخه. وأن إلى جانب الآلاف من الوجوه المبتسمة في الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، ملايين من العابسين والباحثين عن لقمة عيش تبدو في كل يوم أبعد فأبعد؛ فما جرى في لبنان، باختصار، هو انهيار لمؤسسات الدولة ولقطاعها العام. ومن يرغب في رؤية أوضح لحال البلد، عليه أن يضيف إلى أضواء الملاهي والمطاعم، ظلام الدوائر الرسمية وخلوها من الموظفين الذين يحضرون إلى أعمالهم يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع بسبب غلاء تكاليف النقل.
وهذا الانقطاع عن العمل يترك مصالح الناس وأعمالهم وحياتهم اليومية في مهب تسلط زعماء الأحياء والمافيات الصغيرة والكبيرة وأزلام الأحزاب والحركات والتيارات السياسية على اختلاف مشاربها واتفاقها على فرض هيمنتها على المواطنين الذين تتصاعد حاجتهم إلى الحماية والأمن وتدبير سير مصالحهم الأبسط.
خروج الدولة من العلاقة مع المواطن، يترك هذا الأخير عرضة لمزاجية القطاع الخاص الباحث عن الأرباح السريعة والمباشرة والمعترض على أي رقابة حتى لو جاءت من القضاء، على النحو الذي تتعامل فيه المصارف مع مودعيها
إن خروج الدولة من العلاقة مع المواطن، يترك هذا الأخير عرضة لمزاجية القطاع الخاص الباحث عن الأرباح السريعة والمباشرة والمعترض على أي رقابة حتى لو جاءت من القضاء، على النحو الذي تتعامل فيه المصارف مع مودعيها.
وعليه، لعل من الأفضل أن يتروى "المؤثرون" على مواقع التواصل الاجتماعي وأن يوسعوا قليلا مداركهم وأن يقرأوا بعضا مما يصدر عن المؤسسات الدولية التي تعمل في لبنان أو عن الاجتماعات التي تُعقد في العواصم العربية والعالمية لبحث النكبة التي أنزلها اللبنانيون بأنفسهم وإن كانوا لا يزالون يلومون "الغرباء" على ما وصل إليه حالهم.