في تطور مفاجئ، أطلقت "هيئة تحرير الشام" مؤخرا حملة أمنية كبيرة ضد بعض من أعضائها، في واحدة من أكبر العمليات من نوعها والتي باتت مؤخرا متكررة وعلنية. أسفرت العملية الجديدة عن اعتقال أكثر من 200 شخص، بمن في ذلك عدد من كبار الضباط العسكريين والموظفين الإداريين والمدنيين المرتبطين بالهيئة. الأمر اللافت للنظر أنّ كلّ المعتقلين يواجهون تهما بالتعاون والتجسس لصالح جهات مختلفة، كروسيا و"حزب الله" والنظام السوري والتحالف الدولي ضد "داعش".
وقد أثار الافتقار إلى الشفافية في ما يتعلق بنتائج التحقيق شكوكا بشأن مصداقية هذه الادعاءات، مما سبب شعورا بالريبة بأن السبب قد يكون في نهاية المطاف صراعات على السلطة داخل هيئة تحرير الشام. ومع تطور الأحداث، لا تزال العواقب النهائية لتلك الحملة بالنسبة للمجموعة غير مؤكدة، سوى أن الحملة تحمل بين طيّاتها إمكانية تخلخل وحدة هيئة تحرير الشام وإثارة غضب الجمهور ضد المنظمة.
وأُطلقت الحملة الأمنية بعد اعتقال خلية متهمة بالتعاون مع "حزب الله" اللبناني في 24 يونيو/حزيران الماضي. وكشفت التحقيقات الأولية التي أجرتها مديرية الأمن العام، وهي الذراع الأمنية الرئيسة لهيئة تحرير الشام، عما يُزعم بأنه تورط لهؤلاء الأفراد في تسريب المعلومات، وإجراء عمليات تجسس في ريف حلب وإدلب.
استهدفت الحملة الأمنية كثيرا من المدنيين، بما في ذلك أصحاب محلات صرافة، وأصحاب محلات هواتف محمولة، وأصحاب محلات بقالة كانوا يشاركون في هذه الخلايا العاملة في مناطق مختلفة
وظهر عدد كبير من المشتبه بهم مع التقدم في التحقيقات، وهو الأمر الذي دفع إلى توسيع نطاق حملة الاعتقالات كي تشمل متعاونين إضافيين. فقد كان الاختراق على ما يُزعم واسعا لدرجة أنّ قادة في مناصب حساسة أصبحوا أيضا أهدافا لتلك الحملة. وكردٍّ على ذلك، أنشأ قائد هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، خلية لإدارة الأزمة، مجهزة بقوات مسلحة ومخولة بصلاحية كاملة لإلقاء القبض على أي فرد قد يتورط في التحقيقات.
ولا تزال المعلومات المفصَّلة حول خلفيات المعتقلين خلال الحملات الأمنية طيّ كتمان "الهيئة". ومع ذلك، تشير التقارير الإعلامية إلى أنّ عدد الأفراد الموقوفين يتراوح بين 200 و300 فرد.
ومن بين هؤلاء مدير الموارد البشرية للجناح العسكري في الهيئة، الذي يواجه اتهامات بتزويد وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) بنسخ من سجلات الأفراد العسكريين وصور لبطاقاتهم العسكرية. ومن بين الشخصيات البارزة الأخرى المحتجزة مدير الإدارة العامة للواء علي بن أبي طالب، والمسؤول الأمني السابق للكتلة الشرقية، والأمير السابق في تفتناز والمسؤول عن الدراسات الأمنية لسرمدا.
بالإضافة إلى ذلك، اعتُقل المسؤولون عن كاميرات المراقبة وخطوط الإنترنت على طول خطوط الاتصال مع قوات النظام. ويُزعم أن هؤلاء الأفراد قد قدموا معلومات شاملة للنظام السوري وروسيا بشأن نقاط التفتيش على خطوط المواجهة. كما شملت الاعتقالات أيضا أفرادا من خارج هيئة تحرير الشام، بمن في ذلك مساعد مسؤول المعابر داخل حكومة الإنقاذ السورية، وهي الذراع الإدارية لهيئة تحرير الشام، ومشرف في قناة "إدلب بوست" (التابعة للجناح الإعلامي).
علاوة على ذلك، استهدفت الحملة الأمنية كثيرا من المدنيين، بما في ذلك أصحاب محلات صرافة، وأصحاب محلات هواتف محمولة، وأصحاب محلات بقالة كانوا يشاركون في هذه الخلايا العاملة في مناطق مختلفة. ويُزعم أن اعتقالهم لعب دورا حاسما في كشف عدد كبير من الخلايا التي تعمل على نحو مستقل داخل هيئة تحرير الشام.
بغض النظر عن الدوافع الحقيقية وراء الحملة الأمنية، فإن هذه الاعتقالات تحمل بين جنباتها إمكانية تقويض وحدة هيئة تحرير الشام
وقد كشفت محادثات أُجريت مع سكان في الأراضي التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وجهات نظر متضاربة حول الدوافع وراء الحملة الأمنية. يميل أنصار هيئة تحرير الشام المخلصون، وخاصة أولئك الذين لم يتأثروا بالاعتقالات، إلى الاتفاق مع الرواية الرسمية للمجموعة. ومع ذلك، تجب الإشارة إلى أن هذا الموقف الداعم قد يكمن خلفه- على الأقل جزئيا- خوفٌ من عواقب محتملة للتعبير عن الشكوك.
من ناحية أخرى، يميل السكان غير المنتسبين مباشرة إلى المجموعة إلى التشكيك في مزاعمها، مشتبهين بوجود دوافع خفية وراء الاعتقالات. فيشيرون إلى الانقسامات الداخلية المعروفة داخل هيئة تحرير الشام، ويعتقدون أن السبب الكامن خلف الأحداث الحالية هو رغبة الجولاني في التخلّص من الأفراد الذين يعارضون أجندة المجموعة.
ويقر بعضهم أيضا بإمكان وجود عملاء مزدوجين داخل المجموعة، لكنهم يجادلون بأن هيئة تحرير الشام قد تستغل هذه الحالة لتشديد سيطرتها والقضاء على شخصيات بارزة قاومت قيادة المجموعة.
لكن، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية وراء الحملة الأمنية، فإن هذه الاعتقالات تحمل بين جنباتها إمكانية تقويض وحدة هيئة تحرير الشام. فتظل ولاءات كثير من أعضاء هيئة تحرير الشام لقادتهم الأصليين ثابتة، على الرغم من جهود المجموعة لإيلاء الأولوية للدعم الثابت للمنظمة قبل كل اعتبار.
يتجلى هذا الولاء المتضارب في عدة حوادث، كالهجوم الذي شنته قوة عسكرية تابعة لهيئة تحرير الشام على سجن بالقرب من مدينة إدلب كان يأوي معتقلين متهمين بالتعاون. وعلاوة على ذلك، قد يؤدي احتجاز شخصيات عسكرية بارزة إلى انشقاقات أخرى، سواء أكانت على مستوى الجماعات أو الأفراد، إذ أسفرت خلافات سابقة داخل المجموعة عن نتائج مشابهة.
زد على ذلك أن الاعتقالات الشاملة ربما زادت من استياء السكان المحليين ضد المجموعة. فقد أثارت اعتقالات سابقة بالفعل احتجاجات متكررة نظَّمها نشطاء أو أقارب المحتجزين في سجون هيئة تحرير الشام. وقد أشعلت موجة الاحتجاجات الأخيرة المناهضة لهيئة تحرير الشام، والتي تحدث بانتظام منذ مايو/أيار الماضي، عمليةً لاعتقال مجموعةٍ من الأفراد مرتبطين بحزب التحرير، وهو حزب سياسي إسلامي ينتقد هيئة تحرير الشام.
كسفينة تتقاذفها الأمواج، قد تتجاوز هيئة تحرير الشام هذه العاصفة، لكن صورتها كقوة موحدة وهائلة قادرة على الدفاع عن أراضيها ضد الفصائل المنافسة ستتضرر على الأرجح.