يصادف يوم 18يوليو/تموز عيد ميلاد فيلسوف العلم الكبير توماس كون، الذي عاش ما بين 1922 و1996، وهو تاريخ جدير بالاحتفاء وتذكر هذا الاسم الرائد في سماء العلم والفلسفة والمعرفة بشكل عام. من هو هذا الأستاذ الذي يحسن أن نعرف شيئا عن إنجازه العلمي؟
على الرغم من تدريبه كفيزيائي في جامعة هارفرد، أصبح مؤرخا وفيلسوفا للعلوم، بدعم من رئيس الجامعة، جيمس كونانت في عام 1962. وهو مؤلف الكتاب الأشهر اليوم في تاريخ العلم، "بنية الثورات العلمية" الذي أطلق ثورة في تاريخ العلم.
عندما ننظر إلى الإنجازات العلمية للإنسان، نرى التنوّع في الآراء مثلما هو الأمر في كلّ حقل آخر، والعجز عن اكتشاف أي حقيقة هو ذاته. اعتقد علماء الفلك البطلمي قديما أن السماء تدور حول الأرض، لكن كوبرنيكوس خرج عليهم بنظرية أن الأرض هي التي تدور. كيف يمكننا أن نحدّد بشكل قاطع، من المحقّ هنا؟ ربما بعد مرور ألف عام، سيتم تقديم نظرية أخرى من شأنها أن تسقط النظريات الحالية، فقبل الموافقة على مبادئ أرسطو وفلسفته الطبيعية، كانت هناك نظريات أخرى معتمدة. لماذا قبل الناس بأرسطو باعتباره الكلمة الأخيرة في الأمور العلمية لمدة ألفي سنة؟ وفي الطبّ، أثار باراسيلسوس زوبعة في زمانه حين انتبه إلى أن الأطباء الممارسين السابقين كانوا في الواقع يقتلون الناس أحيانا. حتى الهندسة التي قيل في دقتها ما قيل، تواجه صعوبات خاصة، حيث يمكننا أن نتقدّم ببراهين هندسية، مثل تلك التي قام بها زينون، تتعارض مع التجربة. وفي الآونة الأخيرة، أدّت الاكتشافات في العالم الجديد إلى زعزعة إيماننا بالقوانين المقدّمة حول السلوك البشري. لكن، هل عثرنا أخيرا على طريق العلم الصحيح، أم أننا لا نزال في عثرتنا؟
في القرن التاسع عشر كان هناك ابتهاج كبير بالعلم الجديد وما حققه، وسرى في الناس إيمان عميق بأن العلم سيسير دائما نحو التطوّر والترقّي، وأنه قد حلّ كل المشكلات، وما لم يحلّه سيحله قريبا. لقد حُسمت الأمور. هذا الإيمان أصبح موضع التساؤل في القرن العشرين حين خرج كتاب "بنية الثورات العلمية" في 1962 لفيلسوف العلم توماس كون، وشكّل هذا الكتاب صدمة لكثير من العلماء، لأنه قرر فيه أن كل الثورات العلمية متكافئة إبستمولوجيا، أي أنه ليس هناك نظرية أفضل من نظرية أخرى.
"البنية"، كتاب في تاريخ العلم وفلسفته وفي سوسيولوجيا العلم، وهو أيضا إعلان لخطة تاريخية مهمة تشكل تحديا كبيرا لدعوى تطور العلم المطرد، فالبروفسور كون يرى أن للعلم دورات تحكم مسيرته، وهذه الدورات تشمل فترات خمود لا يتحرّك فيها، وفترات ثورات، فاكتشاف الظواهر الغريبة وتراكمها يؤدّيان إلى ثورات علمية و"بارادايمات"، أي أطر جديدة. هذا المصطلح "بارادايم" انتقل بعد كون، من فلسفة العلم، إلى شتى ميادين المعرفة. هناك إطار عام يحكم النظريات العلمية بحيث تصبّ كلها فيه، لكن يحدث أن تنشأ حالات شاذة تخرج عن الإطار وتتراكم النتائج التجريبية التي لا تتفق مع الإطار القديم في مرحلة ما، مما يؤدّي إلى الحاجة إلى إطار جديد.
هناك من يرى أن توماس كون سار بالعلم في طريق اللاعقلانية، بعدما أبعده عن ماديته وموضوعيته، حين قرّر أن تطور النظريات العلمية لا يحدث بسبب تراكم الحقائق، وإنما بسبب تغير الظروف الفكرية والاجتماعية المحيطة
يحدث للعلم في تخصص معين، وفي فترة معينة من التاريخ، أن يهجر البارادايم القديم، وأن يتبنى بارادايما جديدا، ثم يقوم البارادايم الجديد بطرح أسئلة جديدة تتعلق بالبيانات والمعلومات السابقة متجاوزة القديم. يسمّي كون فترات الهدوء، فترات حلّ الألغاز. وتغير البارادايم هذا ليس عملا قائما على حتمية منطقية، وإنما هو مزيج من علم الاجتماع والحماسة والوعد العلمي. هناك من يرى أن كون بهذا قد خلط العلم بالنزعة الإنسانية، وبالتالي هو محسن، وهناك من يرى أنه سار بالعلم في طريق اللاعقلانية، بعدما أبعده عن ماديته وموضوعيته، حين قرّر أن تطور النظريات العلمية لا يحدث بسبب تراكم الحقائق، وإنما بسبب تغير الظروف الفكرية والاجتماعية المحيطة.
هناك مراحل يمر بها العلم: مرحلة السكون التي يسميها مرحلة حل الألغاز، وحيث تجتمع النظريات العلمية في بارادايم أو إطار أو نموذج واحد، وإن كان هناك حالات شاذة تخرج عن أرض هذا النموذج، لكن إن تكاثرت الحالات الشاذّة من النظريات، فإن هذا يؤذن بقيام بارادايم أو نموذج جديد مختلف لتلك النظريات. لتوضيح قضية البارادايم، سنقول إن لفيزياء أرسطو بارادايما معينا، نموذجا أو إطارا، وأن لفيزياء غاليليو إطارا مختلفا تجتمع فيه نظرياته. بالنسبة الى توماس كون، لا يجوز أن نقول إن فيزياء غاليليو أفضل من فيزياء أرسطو، لأن كل واحدة تنتمي إلى بارادايم مختلف، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نقوم بالمقايسة والتمثيل بينهما، ولا يمكن لبارادايم غاليليو أن يفنّد فيزياء أرسطو لأنها تنتمي إلى بارادايم مختلف، وهذا ينطبق على فيزياء الكمومية عندما نقارنها بالفيزياء الكلاسيكية النيوتونية. كل ثورة علمية تختلف عن الأخرى، ولا يجوز استخدام أيّ مصطلح علمي كان في بارادايم غير البارادايم الذي ينتمي إليه.
خلفية أي تغير يحدث للعلم، هي ابتداء خلفية اجتماعية سياسية، ولكي يتغير البارادايم ويقبل البشر بالتغير، نحتاج إلى فترة زمنية يموت فيها جيل كان متشبثا بالقديم ويرفض الجديد ويولد جيل أقل تشبثا بالقديم الذي سرى الشك فيه، وأقرب إلى تقبل الجديد، تماما كما حدث مع نظرية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس. ففي البداية رفضها المعاصرون عند نشوئها، ولكن شيئا فشيئا تغلغلت في النفوس حتى أصبحت هي المعتمد ولم يعد هناك علماء يقولون بمركزية الأرض.
هذا الإنجاز الكبير لتوماس كون، فتح العين من جديد على عجز الإنسان وضعفه، وأعاده إلى السؤال القديم: هل يمكننا أن نعرف شيئا بيقين؟ أم أن ما نملكه من علم لن يتجاوز أبدا النسبية والترجيح؟