25 عاما على ذكرى رحيل الشاعر الكبير نزار قبّاني (وهي في الوقت نفسه مئوية ولادته)، تأتي على غير ما يحصل اليوم، في لبنان وفي سائر العالم، كأنّ كلّ شيء بات غريبا عنه. أَحَبَّ بيروت، وها هي تتجرّد من كلّ المواصفات التي أطلقها عليها عاشقها نزار.
إنّه العاشق الدائم للمرأة وللسياسة، وهما أقنومان من تاريخه الذي قضاه منذ "قالت لي السمراء" (1944)، وحتى رحيله من بيروت وموته في إنكلترا.
إنّه الشَّاعر النّجم الوسيم، شاعر المرأة عشيقة وقضيّة، وُصف بألقاب عديدة، "شاعر الغزل الحسيّ، شاعر المراهقات، شاعر النّهد، شاعر الإباحية، بل شاعر الهزيمة والإحباط.... لكن إلى ذلك شاعر الحرّية، شاعر الهجاء المُرّ.
رحل في بلاد الغربة ككثير من الشُّعراء الذين خانتهم أحلامهم في أوطانهم، وهالهم أن يكونوا شهودا على الخراب والموت والقمع والإذلال والهزيمة. ومهما قيل فيه، سلبا أو إيجابا فهو ملأ الساحة العربيّة وناسها نحو أربعين عاما.
نزار قبّاني ظاهرة قد لا تتكرّر من سرّ القصيدة وكذلك من علاقتها بالناس، وبالقضايا وباللغة وبالارهاف، مالئ الدنيا وشاغل الناس، من المحيط إلى الخليج. ومُحرّض رغباتهم، ومُثير شجونهم، ومُؤلِّب مشاعرهم، ومحرِّك مواقفهم. بعض قصائده انتشرت كالهواء الشاسع، وسجّلت أكثر من حدث، وأكثر من موقف، لتتغلب على الحدث والموقف معا. إنه سرّ القصيدة وسحر الشاعر.
نزار قبّاني ظاهرة قد لا تتكرّر من سرّ القصيدة وكذلك من علاقتها بالناس، وبالقضايا وباللغة وبالارهاف، مالئ الدنيا وشاغل الناس، من المحيط إلى الخليج. ومُحرّض رغباتهم، ومُثير شجونهم، ومُؤلِّب مشاعرهم، ومحرِّك مواقفهم
منذ عام 1944 ونزار قبّاني في ذاكرات الناس، وفي قلقهم ومحفوظاتهم وأفراحهم وأتراحهم وهزائمهم وانتصاراتهم. لهم في شِعره الحصّة الكبيرة، وله من هواجسهم الفضاء الرَّحب. ولهم في نبراته التمتمة والأغنية وله من تواريخهم الخاصة والعامة تقاويمه وحبره ومساحاته المتّسعة. فهو ابن الجماهير العريضة، وهي من سِمات لغته. يكتب أحيانا كثيرة كما يحكون ويحلمون ويقولون ويتنفّسون ويتنهّدون ويدمعون ويعشقون ويموتون ويَحيون. خبزه اليومي من خبزهم، وماؤه من ينابيعهم. إذ قلّما برزت مسافة فاصلة بينه وبينهم، أو انكسرت علاقة أو وشيجة بينه وبين الذائقة العمومية، والشائعة. لهذا لم يقرّر أو يُرِد أن يكون شاعر فئة أو نخبة أو مقاطعة، أو مجموعة أو مدرسة أو اتجاه. كان أوّلا شاعر نفسه، وأولا أيضا شاعر الجميع. يقول الشِّعر كما يتنفس أو يحكي. ببساطة العناصر، وسهولة الماء، ووضوح اللسان. ولهذا لم تخلبه أو تجذبه أيضا مقالات جاهزة حول الشِّعر، أو مقامات نظريّة مُسبقة، أو شعارات حول الحداثة أو الحداثية ولم يبنِ معماريّات فكريّة أو نقديّة، ولم تحاصر أصابعه أي مقولات أو أسوار ينأسر بها. فالشِّعر لم يحتج لديه إلى وسيط نظري، ولا إلى تبرير ذهني، ولا إلى مضخّات برّانية. الشِّعر يطلع كالنَفَس، وكالبصر، وكالحواس، من تلقائه، والنص هو مبرّر نفسه، وهو حافر دربه. وهذا سرّ نزار. ونزار سرّ، فسّره معلن وإعلانه سرّ. وهذه من مفارقاته، ونزار مليء بالمفارقات: فهو شائع وعمومي لكنه حميمي. وهو بسيط لكنه سرّي، وهو خارج المدارس لكنه ابن مدرسته القبّانيّة ذات الديباجة المميّزة، وذات البصمات، وهو خارج الالتزامات الحزبيّة والعشيريّة والعائليّة المقنّنة، لكنه داخل التزامه بالقضايا الكبيرة على طريقته الخاصة، هو شاعر المرأة، بأشيائها وإغراءاتها كأنثى، وكعاشقة، وكمعشوقة، وكذلك شاعرها كقضيّة اجتماعيّة وإنسانيّة، هو شائع كثيرا لكنه حميمي ودافئ؟ هو ضدّ "الحداثة" بمعناها السائد، لكن له حداثته، هجائيّ حتى آخر الحدود لكنّه حنون حتى آخر الحدود، هو قاسٍ حيال ظواهر التخلّف والتقاليد والعادات البالية، ولكن ما أقربه من الشَّعب الذي يمثّل هذه الظواهر، وما أنبل علاقته به، جافی شِعر النّخبة والنخبويّين لكن النخبة لم تجافه. ابتعد عن لغاتهم الغامضة، أو المعقّدة، لكنّه عانقَ همومهم وقضاياهم. صاغ قصيدته الشفويّة المرويّة، لكنه عرف كيف يصوغ قصيدة متماسكة متناسقة، أضعف فيها، وهو الكلاسيكي النبرة، إلزامات البلاغة التاريخيّة والفصاحة المعمّمة والتزويق الخارجى، والجماليّة المجانيّة. وهكذا تمكّن من كتابة قصيدة تجمع بين صفاء اللغة وسهولتها الدارجة وبين أناقة التعبير ومباشرة المعنى، بين شغلها الميسور ومداها المادي السريع.
نزار قبّاني شاعر المفارقات والانسجام، التمرّد والمصالحة، شاعر الـ"مع" والـ "ضدّ"، الماضي والحاضر، الراهن والمستقبل… شاعر يفيض على كل تحديد، وعلى كل استيعاب.
وأخيرا هل يمكن أن ننسى أنه "مجنون بيروت" وعاشقها ومعشوقها؟
أوَلم تكن بالنسبة إليه "ستّ الدنيا" التي ظلّ يردّد أنها علّمته أبجديّة الحب والوفاء والشعر؟
لكن برغم أسلوبه الجمالي البسيط، وقع أحيانا كثيرة في التناقض: هجا الرئيس عبد الناصر في حياته، ورَثاه "كنبيّ" في ستّ قصائد؛ وعمّم في قصائده السياسية (هوامش على دفتر النكسة) بين الناس والحكّام، بين العرب والحكّام، ليلغي كل مسافة بينهم، وأهمل الوقائع الأساسية التي حقّقت الهزيمة، أي العنصر الدولي الذي تواطأ مع إسرائيل، وساعدها إلى حدٍّ كبير في انتصارها على الجيش المِصري.
ماذا بقي من نزار قبّاني اليوم بعد 25 عاما على رحيله: أخشى أن أقول، إنّ كثيرا من الشعراء العرب الذين لمعوا في حياتهم، غمَرَهم النسيان أو الإهمال بعد رحيلهم، ومنهم نزار قبّاني
إلى ذلك، على الرغم من بساطة أسلوبه، فقد وقع أحيانا كثيرة في السّهولة، وحتى في الخطابة، بل والمباشرة الصحافيّة، حيث تراجعت العناصر الإيقاعيّة والجماليّة في محمولها حالات الغضب عنده، أو حالات الغزل. كأنّه دغدغَ غرائز الجمهور، أو حالاته، فانزلق أحيانا في اللّاشِعر: في نثريّة، مُرتجلة، علما بأنّه، كما هو معروف، تأثّر بسعيد عقل (جماليّة الإيحاء)، وبأمين نخلة (جوهرجيّ اللغة). هذه السهولة فتحت احتمالاتها على نقل عناصر القصيدة إلى إيقاعات الأغنية وسهولتها، وهذا ما وقع فيه سعيد عقل، عندما تحوَّل من الرمزيّة الفاليريّة (نسبة إلى بول فاليري الشاعر الفرنسي) إلى البوحيّة السهلة. ولا نعني بذلك أنّ تحوّل القصيدة إلى أغنية يعني سقوطها "الجمالي"، أو المعنوي، بل بسهولة الكتابة، واستعلال الأسلوبيّة التي تُوقع الشاعر في تقليد نفسه وإيقاعاته الجاهزة الأسلوبيّة، وهذا يعني تجمّده في مرحلة من من مراحل شِعره، وتكرارها بشكلٍ آليّ. هذا العنصر التكراري في شِعر نزار ساهم في وقوعه في الاستهلاك السريع. لا يحتاج المتلقي إلى قراءة ثانية أو ثالثة، للتبصّر في عمق القصيدة ودلالاتها، لأنّها، بكل صراحة، فقدت هذا اللحن سواء في عناصر التأليف (التكرار)، أو التبسيط (حدود المعنى المباشر).
وهذا يقودنا إلى السؤال: ماذا بقي من نزار قبّاني اليوم بعد 25 عاما على رحيله:
أخشى أن أقول، إنّ كثيرا من الشعراء العرب الذين لمعوا في حياتهم، غمَرَهم النسيان أو الإهمال بعد رحيلهم، ومنهم نزار قبّاني.
فهو كان نجم معارض الكتاب، حيث كانت تتحلّق حوله الناس خصوصا من المراهقين والمراهقات. ومن خلال معلوماتي الصحافيّة، فقد تراجع مبيع كتبه إلى نِسب مفاجئة: أي سجّل تراجعا إلى تسعين بالمئة عمّا كان في الماضي. كان يوزّع أكثر من كلّ الشعراء اللبنانيّين والعرب: من أدونيس إلى أُنسي الحاج، إلى محمد الماغوط،. كانت دواوينه تُباع كالخُبز أحيانا.
كأن الزمن انقلب عليه، انقلابه على شُعراء وكتّاب كانوا ذات يوم نجوما تلمع في العالم العربي... وانطفأت... إمّا بعد رحيلهم... أو تغيّر الأزمنة والناس والذائقات.