مقابل سياق النّشأة الفرنسي لمفهوم "المثقف"، يصرّ البعض على تأكيد السّياق الأميركي لمولد "الخبير"، فهذا "المفهوم"من صنع أميركي Made in USA على حدّ قول أحد الدّارسين الفرنسيين الذي يشير إلى "طابعه الغامض"واستغلاقه، وبالتالي صعوبة نقله إلى اللغة الفرنسية. لذا فإن هذه اللغة تستعمل ترجمةلـ Think tank عبارات متعددة يمكن أن ننقل بعضها إلى اللغة العربية بـ: خزّان الأفكار، فضاء الفكر، مختبر الفكر... يلحّ البعض على أخذ البعد العسكري للعبارة الإنكليزية بعين الاعتبار، بل ربطها بالوجه العسكري للمولد الدريفوسي للّفظ الفرنسي، إلا أنّ هذا لا يبدو لنا ذا أهمية فيما يخصّ تحديد المعنى الذي سيعطيه التداول العربي للكلمة. فلنكتف بالقول إذن، إن الأمر يتعلق بـ"علبة أفكار"قياسا على "علبة أدوات"الصانع Boîte à outils.
هذا التقابل في مولد المفهومين ونشأتهما سيظل يطبعهما أثناء تداولهما عندنا نحن العرب، بحيث إننا سنظل نتشبث بالفصل بينهما، فكريا على الأقل، فلا نرى في الثاني إلا بديلا يغنينا عن الأوّل ويقوم مقامه، ذلك البديل القابل وحده لـ"ملء الفراغ"الذي خلّفه "موت"المثقف.
غير أنّنا سرعان ما نتبيّن أن "التينك تانك"يتمتّع بخصوصية قد تَـحُول بينه وبين أن يؤدي تلك الوظيفة. فهو لا يحيل إلى أفراد مثلما هو الشأن بالنسبة إلى المثقفين، وإنّما إلى مؤسسات. الخبير مرتبط بمؤسسات خاصة مستقلة هي عبارة عن "نواد للفكر"تضمّ رؤساء مقاولات وجامعيين ورجال بحث "يفكّرون جميعهم في نقطة بعينها من أجل هدف محدّد". فالخبير، على عكس المثقف، هو أصلا ذو هوية مؤسساتية، وبالتالي فإن ظهوره مرتبط أساسا بالشروط الموضوعية التي تحدّد نشأة المؤسسات وترعى ازدهارها وتحدّد مهامّها. الخبير لا يكون كذلك إلاّ داخل مؤسّسة يلتزم بأهدافها في ما يُنتج من "أفكار"مقابل ما يجلبه منتوجه من مكافآت. ما أبعدنا عن الحوافز الأخلاقية والدوافع "النّضالية"التي كانت تحرّك المثقف حتى وقت قريب. لا شيء من هذا في عالم تحكمه قيم المصلحة ونجاعة الفعالية. لقد كان المثقف يستمد قيمته من الدّور الذي يلعبه، والقيم التي يدافع عنها، و"الالتزام"الذي يحفّزه.وكان عمله اليومي هو بالضبط "نقض الظاهر"، لما كان يُفترض فيه من وعي بحركة التاريخ، ومن دفاع عن المستضعفين، ومن تجسيد لضمير التاريخ، لذا كان ينظر إليه على أنه"يساري بالطبع"، وأنه، مبدئيا على الأقل، "نبيّ كل الثورات"، والممهّد لها، والسّاهر على قيامها، والرّاعي لمصيرها. لذا كان اسمه وشهرته يستغلان "للتأثير على الرأي العام".أما الخبير فلم يكن يعتبر إلا مُنتج أفكار تستهدف المنفعة المباشرة. ولم يكن الأمر ليتعلق معه برسم آفاق وتحقيق مطامح، وإنّما بمردودية آنية وفعالية ناجعة، إذ على الفكر هنا أن يتوصل فقط إلى نتائج ملموسة مثل مشاريع القوانين على سبيل المثال.
كان من المتوقَّع أن يدفع هذا الأمر إلى اليأس من تعليق الآمال على الخبير كي يشغل مكانة المثقف. وعلى رغم ذلك، فأمام العجز الذي أصبح يعترض الفعل الثقافي في شكله المتوارث عن "تحويل الواقع"، أو التأثير فيه على الأقل، ونظرا لما آلت إليه الأمور في مجتمع الفرجة، حيث لم يعد المثقف يلعب أساسا دور الناقد أو المحلل أو الهادِي، أو المتكلم بصوت الجماهير، وإنما أساسا دور النجم الذي يتوسط علائقنا بما يروج حولنا، فلا نكفّ نتطلع الى ما سيقوله وما سيفعله، كي نرى الأمور بعينيه، وندرك الواقع بمداركه، إذ يكفي أن يزكّي حربا، أو يؤيّد موقفا، أو يستنكر تصرّفا أو يفتي فتوى حتى تجاريه الآراء وتهتدي بهديه المواقف، أمام كل ذلك اتجهت الأنظار نحو الخبير كي يحلّ محله.
سرعان ما نتبيّن أن "التينك تانك"يتمتّع بخصوصية قد تَـحُول بينه وبين أن يؤدي تلك الوظيفة. فهو لا يحيل إلى أفراد مثلما هو الشأن بالنسبة إلى المثقفين، وإنّما إلى مؤسسات
صحيح أن بعض المواقف الفلسفية ظلت تعوّل على المثقف، فحاولت أن تسند إليه مهام جديدة بحيث لا يقتصر دوره على أن يجعل الآخرين "يتقبلون ما اهتدى إليه"، ولا تعود مهمته مهمة تبشيرية ولا حتى "إقناعية"، لا تعود "إقناع الناس بحقائق بعينها"، و"نشر الوعي بينهم"وهديهم سواء السبيل، وإنما العمل على تغيير نظام الحقيقة الذي يعيشون في حضنه. ولعلّ أبرز من رفع هذه الدعوة في فرنسا هو الفيلسوف ميشيل فوكو الذي كان قد كتب: "إن المشكل السياسي الأساس، بالنسبة إلى المثقف، ليس هو أن ينتقد المضامين الأيديولوجية التي قد تكون مرتبطة بالعلم، أو أن يعرف ما إذا كان من الممكن إنشاء سياسة جديدة للحقيقة، المشكل ليس هو تغيير وعي الناس أو ما يوجد في أذهانهم، وإنّما تغيير نظام الاقتصاد السياسي والمؤسسي لإنتاج الحقيقة". فقضية المثقف وفق هذا الفيلسوف الفرنسي، "ليست هي الأخطاء والأوهام أو الوعي المستلب والأيديولوجيا، وإنما الحقيقة ذاتها".
أراد فوكو للمثقف ألا يجعل مهمّته تنحصر فحسب في دور المنطقي الذي يعيّن معايير الصدق والصّلاحية، ولا في دور الإبيستمولوجي الذي يحدّد "قواعد المنهج"، ويسنّ للعقل "قواعد توجّهه" على حدّ تعبير أبي الفلسفة الحديثة، أو في دور الداعية الأيديولوجي الذي يوكل إليه "تفنيد عقيدة الآخر"، ولا في دور المرشد الأخلاقي الذي يسدي النصيحة ويهدي إلى طريق الخير، وإنّما أن ترقى إلى من يرعى "سياسة الحقيقة"، فيعمل من أجل البتّ في القواعد التي يدبّر بها أمر الحقيقة في المجتمع، للكشف عن الآليات التي تتحكم في توليد الخطابات ونشرها وتداولها. أراد فوكو لمهمة المثقف لا أن تقتصر على معرفة كيف ينتظم الخطاب والدفاع عن حقائق بعينها، وإنّما أن يعيد النظر في "نظام الخطاب"، ويساهم في تغيير "الاقتصاد السياسي للحقيقة".
غير أن هذه الدعوة لم تجد في عالمنا العربي الصدى الملائم، لذا ارتأى البعض ألا مندوحة من اللجوء إلى من يعوّض هذا المثقف في غياب البديل المطروح. لعل ذلك هو ما أخذ يسمح بنشأة ما نلاحظه عندنا من نموّ لظاهرة لا تخلو من غرابة تتجلى في ظهور مثقفين من نوع جديد، مثقفين يسكنهم خبراء، مثقفين "تقنيين"لا هم ينتمون فعليا إلى "مختبرات الأفكار"، ولا إلى الإنتلجنسيا التي تمتهن الدّفاع الطّوعي عن قيم بعينها. إنّهم مثقفون من طينة أخرى تحرّكهم الظرفيات ويصنعهم الإعلام. صحيح أنهم يظلون يستهدفون المردودية المباشرة، وصحيح أيضا أنّ ما يظلّ يحرّكهم هو منطق المصلحة، وهم في ذلك أشباه خبراء، إلا أن المصلحة التي يجرون من ورائها ليست مصالح مؤسسات كبرى تستفيد من خبراتهم و"تستثمرها"، وإنّما مصلحتهم هُم بما هم أفراد يتوفّرون على معارف، ويتقنون مهارات، بما فيها مهارة التأقلم مع تقلّب الأحوال، والتكيّف مع تبدّل الأزمنة، واستغلال الظروف.