في 2017 أعلن المخرج آكي كاوريسماكي اعتزاله صناعة الأفلام، قائلا في أحد لقاءاته آنذاك: "لقد تعبت، والآن حقا أقول للسينما وداعا"، وقد استغرق الأمر 6 سنوات ليتراجع أهم مخرج فنلندي على الإطلاق عن قراره هذا، وليعود عبر "مهرجان كانّ السينمائي" 2023 بفيلم جديد عنوانه "أوراق متساقطة Fallen Leaves"، يشبه كثيرا ثلاثيته البروليتارية الشهيرة، "ظلال في الجنة" 1986، "آريل" 1988، و"فتاة المصنع" 1990، وهي أفلام تراجكوميدية تشترك بأبطالها الوحيدين، والمنتمين إلى الطبقة العاملة، وبحياتهم الخالية، وبوظائفهم التي يُفصَلون منها باستمرار، حيث يلازمهم حظهم العاثر، وقد جفت وجوههم من المشاعر، لكن في النهاية يلمع الحب البريء ليقودهم إلى الميناء الذي سيجدون الحرية فيه.
عندما يكون العالم خاليا أساسا من الأمل، لا تعود ثمة حاجة إلى التشاؤم، مثلما عبّر كاوريسماكي مرّة. من هذا المبدأ تنطلق هزلية الأسلوب المميز لأفلامه، في حسها الكوميدي الجاف، وشخصياتها المتصلبة، وفراغها الذي تجد المهرب منه في الكحول والسجائر، والنظارات الشمسية الكبيرة، وأغاني فرقة "ذه رينيغيدز" الصادحة، والبلوز الحزينة في سيارات الكاديلاك إن وُجدت. وعبر تقديم بصري تبسيطي ودقيق، ينتزع كاوريسماكي على طريقة المخرج الفرنسي روبرت بريسون المشاعر من ممثليه، وإن كان بريسون تخلّص منها لجعل الصورة محور خلق الدراما، فإن كاوريسماكي يقوم بها لانتزاع الدراما تماما. وعلى الرغم من هذه الحالة القاتمة الذي يصنع انفصالها الساخر تقديما هزليا لمعظم مشاهد أفلامه، إلا أنها دائما ما تجد طريقها الى أدفأ المشاعر الإنسانية وأنقاها.
بطلا حكاية "أوراق متساقطة" هما أنسا (ألما بويستي) وهولابا (جسي فانتين)، شخصيتان تنتميان الى عوالم كاوريسماكي في افلام الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أكثر من عوالم شخصياته الحديثة. فأنسا صامتة في معظم مشاهد الفيلم، تعمل في أحد متاجر الأغذية في هلسنكي، ويتشكل جزء كبير من عملها على رمي الأغذية المنتهية الصلاحية في حاويات القمامة، إلا أنها تُطرَد من وظيفتها فقط لأنها أخذت هذه الأغذية (المنتهية الصلاحية) إلى منزلها بدلا من أن تضعها في القمامة. أما هولابا فهو عامل بناء، طويل القامة، قليل الكلام، كثير الشراب، ولطيف الشخصية. يذهب في يومٍ من الأيام رفقة زميله وشريكه في الغرفة إلى إحدى حانات الكاريوكي التي لن يغني فيها بالطبع، لأن "الرجال الأشداء لا يغنون" كما قال ليلتها لصديقه.