حدثت خلال العقود الماضية متغيرات ديموغرافية وتكنولوجية مهمة تركت بصماتها على الأوضاع الاقتصادية في مختلف دول العالم. وإذا كانت الدول الصناعية الرئيسة تعاني من تراجع معدلات النمو السكاني الطبيعية وارتفاع مستويات التقنية الحديثة بما يؤثر على أسواق العمل ونوعية الوظائف، فإن الدول النامية ومنها الدول العربية ودول الخليج ليست بعيدة أو محصنة من تلك المتغيرات.
وأصبح ارتفاع متوسط العمر (Life Expectancy) ظاهرة إنسانية في مختلف المجتمعات، خصوصاً عندما تتحسن نوعية الحياة وتتوفر الرعاية الصحية الأساسية وترتقي مستويات التعليم، وكذلك الحال بالنسبة لمعدلات النمو السكاني أو الخصوبة لدى النساء ومفاهيم تكوين الأسرة.
كما أن دول الخليج، التي اعتمدت منذ بداية عصر النفط على العمالة الوافدة، طورت في الوقت نفسه أنظمة تقاعد كريمة ودعمت عناصر الحماية الاجتماعية وآليات المساعدات للمحتاجين من مواطنيها على نحو مكلف، لذلك، يلاحظ اتساع قاعدة المتقاعدين في هذه الدول، بمن فيهم من تقاعدوا في سن مبكرة من الرجال والنساء. تسمح السعودية بالتقاعد عند بلوغ سن الستين أو قضاء 25 سنة خدمة في الوظيفة، أو ما يطلق عليه التقاعد المبكر. أما في الكويت فتسمح بالتقاعد بعد مضي 30 سنة خدمة وبأن يكون سن المتقاعد لا يقل عن خمسين عاما، وبالنسبة للنساء تكون مدة الخدمة 25 سنة على أن لا يقل العمر عن 45 عاماً.
أعداد المتقاعدين في دول الخليج عام 2022: 991 ألفا في السعودية، الكويت 135 ألفا، الإمارات نحو 80 ألف متقاعد، قطر 21 ألفا، عمان نحو 76 ألفا والبحرين نحو 78 ألف متقاعد
لا تختلف الأمور كثيراً في دولة الإمارات أو في قطر أو عمان أو البحرين. في كل هذه الدول يمكن التقاعد بعد سن الستين أو بعد قضاء مدة لا تتجاوز 30 سنة خدمة وظيفية. معلوم أن سن الستين لم يعد كبيراً ويمكن للمرء أن يمضي مدة أطول في الخدمة، وربما بجدارة أفضل وحتى ما بعد السبعين. ولدى الاطلاع على ميزات التقاعد والمعاشات التقاعدية في دول الخليج، لابد أن نتيقن بأن هذه الأنظمة التقاعدية ذات كلفة عالية بالنسبة لمؤسسات التأمينات الاجتماعية والتي تتلقى دعما كبيرا من المالية العامة في هذه الدول. وقد أقرت الكويت قبل سنوات، نظام التأمين الصحي "عافية" للمتقاعدين، بحيث يمكن أن يتمتع أي متقاعد بالعلاج على حساب هذا النظام لدى أي عيادة أو مستشفى خاص.
يكلف هذا النظام في الوقت الحالي ما يزيد على 350 مليون دينار (1,15 مليار دولار) لتغطية علاج أكثر من 130 ألف متقاعد كويتي. هذه التكاليف قابلة للزيادة حيث ترتفع أعداد المتقاعدين سنوياً وهناك حوافز للموظفين للتقاعد خصوصاً في المؤسسات العاملة في القطاع النفطي أو المؤسسات العسكرية.
وتتفاوت أعداد المتقاعدين في دول الخليج، ففي حين بلغ عددهم نحو 991 ألفا في المملكة العربية السعودية عام 2022، سجلت الكويت 135 ألف متقاعد في العام نفسه، والإمارات نحو 80 ألف متقاعد، وقطر 21 ألف متقاعد، وعمان نحو 76 ألف متقاعد، فيما سجلت البحرين نحو 78 ألف متقاعد.
السمات الديموغرافية
بطبيعة الحال تعكس هذه البيانات الأنظمة التقاعدية وميزاتها في مختلف دول الخليج، ومدى تحفيزها على الاستفادة من التقاعد المبكر، وشروط سنوات الخدمة للذكور والإناث، وسياسات الإحلال المتبعة في كل دولة. ويتفاوت سن التقاعد بين الذكور والإناث أحيانا، ولكنّ هناك توافقا على أن تكون مدة الخدمة المؤهلة للتقاعد الاعتيادي 30 عاماً، وبحيث لا يقل عمر المتقاعد عند الإحالة عن 50 عاماً للذكور و45 عاماً للإناث. غني عن البيان أن هذه الأعداد من المتقاعدين سوف تتزايد باطراد نظراً للسمات الديموغرافية في دول المنطقة.
السمات الديموغرافية في مختلف دول الخليج متشابهة إلى حد ما، حيث ترتفع نسبة الشباب وصغار السن، ويمكن الزعم بأن من تقل أعمارهم عن 35 عاماً تصل نسبتهم إلى 75 في المئة من مواطني أي دولة خليجية. أما كبار السن الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة فإنهم يتزايدون أيضا نتيجة لارتفاع نوعية الحياة وتحسن أوضاع الرعاية الصحية. وتتوقع الأمم المتحدة أن تصل نسبة من تتجاوز أعمارهم الخامسة والستين عاماً أكثر من 25 في المئة من مواطني دول الخليج في عام 2050. لكن التساؤل المهم هو كيف يمكن تحمل تكاليف التقاعد في دول المنطقة مع ارتفاع أعداد المتقاعدين خلال السنوات المقبلة؟ وإذا كان عدد كبير من هؤلاء يتقاعد في سن الخمسين مثلا، كيف يمكن لهم توظيف أوقاتهم بصورة إيجابية مثل العمل في منظمات مدنية أو خيرية أو العمل في وظائف استشارية في القطاعين العام والخاص؟ لا شك أن هذه التساؤلات تمثل تحديات للحكومات وللأفراد أنفسهم، خصوصاً بالنظر إلى المتغيرات التكنولوجية المتسارعة وتأثيراتها على سوق العمل والوظائف، حيث إن كثيرا من الوظائف أصبحت غير ذات جدوى، ولم يعد هناك طلب على المتخصصين في تلك الوظائف بعد أن قللت التكنولوجيا من أهميتهم.
سن الستين لم يعد كبيراً ويمكن للمرء أن يمضي مدة أطول في الخدمة، وربما بجدارة أفضل وحتى ما بعد السبعين. مسألة المتقاعدين وتكاليفهم والاستفادة من عطائهم من الأمور التي تستحق أن تشملها برامج التنمية البشرية في دول الخليج
يلتقي المرء بالكثير من المتقاعدين في المقاهي والأسواق، ومعظمهم يقضون أوقاتهم من دون فائدة مباشرة لهم أو لعائلاتهم أو للمجتمع عموما. تبرز مطالبات بين فينة وأخرى لتوظيف هؤلاء في وظائف يشغلها الوافدون، حيث ترتفع مساهمة العمالة الوافدة في سوق العمل. لكن أية وظائف يمكن أن يقبل بها هؤلاء المتقاعدون؟ هل يمكن لهم أن يعملوا في مهن شاقة مثل الأعمال ذات الصلة بالتشييد والبناء؟ هل يملك المتقاعدون مهارات حرفية مثل التجارة أو الحدادة أو الأعمال الكهربائية أو التمديدات الصحية أو أعمال الديكور، وهي مهن وحرف أساسية يشغلها الوافدون بنسبة 100 في المئة في مختلف دول الخليج، أو أغلبها على أقل تقدير؟ ثم هناك وظائف التدريس أو التمريض أو الحراسة، وهي مهن ربما تجد من يقبل بها من المواطنين، ولكن إلى درجة محدودة.
مسألة المتقاعدين وتكاليفهم والاستفادة من عطائهم من الأمور التي تستحق أن تشملها برامج التنمية البشرية بما يعزز عطاء القوة البشرية الوطنية في دول الخليج. عدد كبير من المتقاعدين يشكو من فائض الوقت وينطلق لقضاء هذا الوقت في دول قريبة وبعيدة متى ما توفرت الإمكانات المالية. بيد أن الأمور يجب أن تعالج من منظور أشمل من الاعتبارات الشخصية أو الخاصة بما يوفر قيما مضافة للحياة الاقتصادية والاجتماعية.