الرقة- في اليوم الذي دخلت فيه "المجلة" شمال شرقي سوريا، كانت هناك حالة استنفار قصوى تهيمن على أجواء مدينة القامشلي، بعد وضع قوات سوريا الديمقراطية مزيدا من الإجراءات حول المطار المدني جنوبها، و"المربع الأمني" التابع للنظام وسطها؛ كردٍ على حصار الفرقة الرابعة من الجيش السوري للأحياء الكردية في مدينة حلب.
في ذلك اليوم نفسه، كانت مسيّرة تركية قد استهدفت قياديا في قوات سوريا الديمقراطية غربي مدينة منبج، وردود الفعل المحلية تتوارد بشأن المعلومات المسربة من مكتب الرئيس الإيراني، التي قالت إن إيران تسعى جاهدة لتدريب فصائل مسلحة لشن هجمات على منطقة شمال شرقي سوريا. كذلك أعلنت الإدارة الذاتية في المنطقة بدء محاكمة عدة آلاف من أخطر عناصر تنظيم داعش الإرهابي، بعد رفض دولهم استعادتهم.
في ظل كل ذلك، كانت حركة الأسواق والحياة العامة في مُدن المنطقة، ديريك والقامشلي والحسكة والرقة، عادية تماما، وعلى جنباتها آلاف الحصادات تجني محصولي القمح والشعير على طول السهب الخصب هناك، والحركة التجارية عامرة، وقد تصادف حفلات لا تُحصى، عائلية وعامة.
عند الدخول عبر معبر "فيش خابور" الحدودي مع إقليم كردستان العراق، المنفذ الخارجي الوحيد لتلك المنطقة المحكومة ذاتيا والخارجة عن سلطة النظام السوري منذ عشر سنوات بالضبط، يقابل القادم مجموعة من الإجراءات الإدارية والأمنية المطابقة لأعراف وأنظمة دخول الزوار لأية دولة "طبيعية": وحدة خاصة للتأكد من سلامة الوثائق ومطابقتها للمعايير المتبعة، وأخرى للتدقيق الأمني في الشخص الداخل، وثالثة لفحص البضائع عبر أجهزة ليزرية. يأخذ العابر في محصلتها "وثيقة رسمية"، يمكنه الاستناد إليها فقط، أثناء إقامته أو تنقله بين مختلف مناطق الإدارة الذاتية هناك.
إلى جانب ذلك، يلاحظ الزائر مجموعة من الدلائل على مستوى التمكن الإداري في المعبر الحدودي؛ فالزي الرسمي والرُتب موحدة بين أعضاء كل قسم، والإدارة مقسمة إلى وحدات منفصلة: الجوازات والأمن والتفتيش والحماية. وثمة شبكة إلكترونية مشتركة تدير مختلف أنواع الدخول إلى المنطقة، سواء الشخصي أو السياسي أو التجاري، ويستند العاملون هناك إلى دفتر واضح من الإجراءات الواجب اتباعها.
هياكل السلطة
تُعطي تدابير المعبر الحدودي مؤشرا وصورة عن كامل هيكل السلطة والإدارة العامة والحوكمة في منطقة شمال شرقي سوريا، وعلاقة تلك المؤسسات والإدارات بالسياسة والقوى المسلحة وعموم الصراع على تلك الرقعة السورية؛ فالمنطقة الممتدة على مساحة تقارب 50 ألف كيلومتر، تمثل أكثر من ربع مساحة سوريا، تضم محافظة الحسكة والنصف الشمالي من محافظتي الرقة ودير الزور، وأجزاء واسعة من شرق ووسط محافظة حلب، يسكنها ما يزيد على 5.5 مليون نسمة، وتنتج أغلب الثروة الباطنية والزراعية في سوريا، يتداخل فيها وعليها كثير من النزعات الآيديولوجية والجيوسياسية والعسكرية، المحلية والإقليمية، وحتى الدولية، تشغل منذ سنوات بؤرة للصراعات المحلية والإقليمية والدولية.
في مكتبها البسيط بمدينة الرقة، تُخبرنا الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بيريفان خالد- المنصب الموازي لموقع رئيس الوزراء- أن عمل إدارتها مستقل نسبيا عن مجموع تلك الصراعات، وينصب على تقديم مجموعة من الخدمات العامة لسكان هذه المنطقة، وحماية دورة الحياة، في ظل ظروف سياسية واقتصادية وأمنية استثنائية تعيشها تلك المنطقة منذ سنوات.
وقد تأسست الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا "على مراحل"، منذ خروج بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية في أقصى شمال شرقي سوريا من سيطرة النظام السوري أواخر عام 2011، وصارت محكومة من "وحدات حماية الشعب" العسكرية الكردية، فأنشأت بالتقادم مجموعة من الإدارات والأجهزة "البديلة" عما كانت للنظام السوري. طوال الأعوام الثلاثة الأولى من الثورة السورية، أخذت هذه الإدارة أسماء وصيغا مختلفة، تبعا للتطورات العسكرية على الأرض، إلى أن أُعلنت "الإدارة الذاتية الديمقراطية" في منطقة الجزيرة (محافظة الحسكة) في الشهر الأول من عام 2014، وأضيفت إليها بالتتالي مناطق كوباني/عين العرب، وعفرين، ومنبج، والطبقة، والرقة، ودير الزور، فيما بعد.
ومنذ قرابة تسع سنوات وحتى الآن، كما تشرح الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بيريفان خالد في حديثها مع "المجلة"، فإن الإدارة مؤلفة من ثلاث سلطات منفصلة عن بعضها، هي المجلس التشريعي (البرلمان المحلي)، ومجلس العدالة الاجتماعية (القضاء)، والمجلس التنفيذي (الحكومة)، تدير مجتمعة كامل الحياة العامة في سبعة "أقاليم داخلية" سابقة الذكر، بشكل لامركزي شبه فيدرالي، تملك كل واحدة منها مؤسسات وسلطات محلية نظيرة لتلك العامة، المنبثقة أساسا عن شراكة وتوافق تلك المؤسسات المحلية/ الإقليمية.
المجلس التنفيذي
يتألف المجلس التنفيذي من ثلاث عشرة هيئة، توازي كل واحدة منها وزارة بعينها، مثل الداخلية والمالية والثقافة والصحة والعمل والتربية، وهيئة خاصة بالمرأة وأخرى بالبيئة، وإلى جانبها سبعة مكاتب، مختصة بالدفاع والنفط وشؤون الأديان والتخطيط، حيث لم تُخصص هذه القطاعات بهيئات في المجلس التنفيذي، دفعا لـ"شُبهة الانفصال".
حول آلية تشكيل المجلس التنفيذي وحصوله على "الشرعية"، تشرح الرئيسة المشتركة: "المجلس التشريعي هو مصدر الشرعية، وأي عضو في المجلس التنفيذي لا بد له من الحصول على تصويت/ موافقة المجلس التشريعي، وهذا الأخير يراقب ويحاسب المجلس على الدوام، يقر سياسته وميزانيته، ويسائل أعضاءه"، مضيفة: "الأحزاب والتكتلات السياسية عادة ما ترشح الأشخاص لشغل مناصب في المجلس التنفيذي، بالتوافق مع رئاسة المجلس التنفيذي، ثم تُعرض الأسماء على المجلس التشريعي العام للحصول على الموافقة. وهذا الأخير مؤلف من ممثلي المجالس التشريعية المحلية مع حصة خاصة بالأحزاب والقوى السياسية المعترفة بالإدارة الذاتية".