الرواية ليست حكرا على الروائيّ وحده، وما ينبغي لها أن تكون. ليس كلّ من أخلص لكتابة الرواية وحدها أبدع فيها، وأجاد فنّ لعبها وأضاف لها بالضّرورة. أن تلتزم بالإبداع في نوع أدبيٍّ كالرواية دون غيرها لا يعني أبدا شرطا من شروط اعتباريّتها، أو قيمة مثلى من قيمها اللامناص منها لكي يتحقّق معناها أو جدواها، لنقل الصورة الأرقى الجديرة بها.
تاريخ الكتابة الروائية حافل بالأسماء التي جاءت من شتّى الحقول، العلميّ منها والاقتصاديّ، الفلسفيّ منها والتّاريخيّ، الشعريّ منها والمسرحيّ، التشكيليّ منها والسينمائيّ، علاوة على مهن تبدو علنا بعيدة، فيما هي مجاورة ضمنيّة كالطبّ والهندسة...إلخ
كل ما سلف ذكره طبيعيٌّ، ولا شائبة تعتور الظّاهرة، فإنّما الرواية، تاريخها وراهنها ومستقبلها، ما يتغذّى ويغتني باستقطاب مختلف المشارب الإنسانيّة، شرط أن تكون هذه الروافد خلاقة، مبتكرة، جيّدة في حدّها الأدنى المطلوب وما فوق.
ما يلاحظ عربيّا أمام ما يُعمّمه الكثير عن انحسار الشعر وتراجع الاهتمام به، هو حدوث هجرة جماعية من مجرته الهائمة إلى أرخبيل الرواية من لدن شعراء أغلبهم عرفناهم متألقين في أبراجهم الشعرية، وما لبثوا أن غيّروا المقام إلى تجريب مغامرة كتابة الرواية، وهذا يحقّ لهم ما دام الهاجس وجوديّا وجماليّا بمآرب فنّية وأدبية صرفين.
ما المشكلة في أن يعدّد المبدع أشكاله الأدبية ويكتب وفق اختياراته الفنية في هذا النوع وذاك؟ هذا التعدّد قد يكون مردّه إلى أنّ الشعر في حالة الشاعر أعلاه، وحده لا يستوعب كلية ما يروم قوله، ما يطمح إلى تجريبه من رؤى وتخييل وموضوعات على سبيل المغامرة والاختلاف. وكأنّ حال قلقه هو ما لا يقبض بالشعر يمكن القبض عليه بالرواية، أو بصوغ آخر ثمة ما هو منفلت من الشعر لا يمكن تداركه إلا بالفن الروائيّ أو بالقصة القصيرة أو المسرح أو السينما. وقد يكون الأمر غير ذلك، فبالشعر يعمل على ما هو جوهريّ، كينونته كشاعر، في حين الكتابة ضمن أنواع أخرى مجرد هوامش، هوامش تغذّي ما هو محوريّ لا يتخطى مداره الشعريّ.
ما المشكلة في أن يعدّد المبدع أشكاله الأدبية ويكتب وفق اختياراته الفنية في هذا النوع وذاك؟ هذا التعدّدُ قد يكون مردّه إلى أنّ الشعر في حالة الشاعر أعلاه، وحده لا يستوعب كلية ما يروم قوله، ما يطمح إلى تجريبه
الأعمق من ذلك أنّ الشّعر لا يتحقّق وحده بالقصيدة، ويمكن أن يتحقق بأشكال أخرى ومنها الرواية، وبذا فالشاعر لم يخرق حدود وجوده الشعري كما هو موهوم بل انفتاحٌ لصالح الشعر الذي يُتاخِمُه في الرواية أيضا.
وأمّا من فشل شعريّا وحاول أن يتدارك الخيبة بتجريب الرواية فمسألة أخرى...
المنصف من كلّ ما سبق، هو أن الشاعر بإمكانه أن يكون جيدا في شعره، بالقدر نفسه من الجودة في كتابته للرواية أيضا وغيرها.
لا ارتياب يستدعيه الأمر، فأرض الإبداع واسعةٌ ولا نأمة فهي لمن يحرثها، وإن فتحنا مدوّنة الروائيين شرقا وغربا، ممّن جاؤوا إلى الرواية من الشعر فلن نكاد إغلاق قائمتها، وبالذات ممن أضافوا إليها وجدّدوها واجترحوا فيها إبدالات اتخذ معها الخلق الروائيّ مآلات مغايرة كوليام فوكنر وبول أوستر وميلان كونديرا وسليم بركات... إلخ
ما ينسحب على الشعراء الذين جرّبوا كتابة الرواية وأصبحوا من رموز حداثتها الراسخين، يمكن عكسه على الروائيّين الذي جربوا أيضا كتابة الشعر فيما مضى عندما كان الشعر يتسيّد المحفل الثقافي، سواء الروائيين الذين توفقوا في رهان المغامرة الشعرية وواصلوا المجازفة أبعد وأقصى أو النقيض من الذين خيّبتهم التّجربة، ولم يكن اقترافهم للشعر إلا وصمة فشل فادحة. هذا استطرادٌ من باب النظر إلى الوجه الآخر للمسألة الذي لا نواريه ولا ننفيه.
أمّا غير الطبيعي - ممّا طفق المشهد الإبداعيّ العربيّ مأهولا به، وأمسى لافتا كظاهرة طارئة، يوما عن يوم يتفاقم اطّرادها السّريعُ - فأن يتهافت على الرواية شعراءٌ بنوايا غير جمالية، إذ الرياح التي ساقتهم إليها تجارية واستهلاكية وانتهازيّة...
لعلّ ألطف الأسباب الدامغة أنّ الرواية باتت مقروءة على نحو واسعٍ، وأضحت تتصدّر محفل الاهتمام لدى القراء من المحيط إلى الخليج.
هؤلاء المهرولون إلى الرواية من الشعراء تحت طائل إغراء بهرجة الجوائز التي باتت الرواية تستأثرُ بها، إنّما يهينون أنفسهم الأمّارة بحمّى الشهرة وهوس النجومية، قبل أن يهينوا الشعر الذي أتوا منه، أو يهينوا الرواية التي نزحوا إليها
الأنكى من ذلك أنّ الرواية هي أعزّ ما يطلبه الناشرون، حتى أنّ معظم دور النشر بل كلّها طفقت تهرق عناوينها في مجرى النشر وهي مغمضة العيون، وبخاصة غبّ كل معرض نشر دولي للكتاب، هنا وهناك وهنالك... فيما يعترض طريق الشعر إلى النشر على نفقات الناشرين أفدح العقبات، وكثرة التسويف التي تطابق معنى الاعتراض على النشر أو الرفض بألبق ما يكون من أوهى الذرائع...
لكنّ الحقيقة العارية التي لا يمكن حجبها بأفخر لباس الأكاذيب، هو أنّ صخب الجوائز التي استأثرت بها الرواية بالفترة الأخيرة، البوكر العربية بالذّات وغيرها، هي الجَزَرة التي حوّلت هؤلاء إلى أرانب يسعون في سباق محموم إلى نيلها، بأيما طريقة كيفما كانت مبتذلة.
ليس بجرّة تعميمٍ يُسدلُ الموجُ على معظم الشعراء الذين جاؤوا إلى الرواية كما هو مشار إليه بعناية آنفا، بل شرائح شائعة منهم ذات نزوع بنوايا استباقية رعناء والحال أنّ صنيعهم السّردي محض تلفيق، وهذا ما حاولت إبرة الملاحظة بعين الرّاهن أن تجسّه حصرا على غثاء السيل منهم لا غير.
هؤلاء المهرولون إلى الرواية من الشعراء تحت طائل إغراء بهرجة الجوائز التي باتت الرواية تستأثرُ بها، إنّما يهينون أنفسهم الأمّارة بحمّى الشهرة وهوس النجومية، قبل أن يهينوا الشعر الذي أتوا منه، أو يهينوا الرواية التي نزحوا إليها.