بلغة عربية كتابية أنيقة، كلاسيكية محدثة، وتتجنّب الإنشاء الأدبي العربي الدراج؛ وبذائقة معرفية أنثروبولوجية تلابس فن السرد، يكتب الباحث التونسي الطاهر لبيب (1942- ...) روايته الصادرة حديثا (بعد منتصف 2023) لدى "دار محمد علي الحامي" في تونس، و"منتدى المعارف" في بيروت. ولغة السرد هذه غريبة عما ساد من لغات كرسها فيضان الرواية وطغيانها السيّال على المشهد الثقافي العربي منذ أكثر من 15 سنة. والسيولة، والأحرى السهولة، أفقرت الرواية العربية وأغرقتها في الكلام الشفوي السائل والمفصّح، من دون أن يغادر بنيته الشفهية التي تفتقد فن الكتابة والهوية الكتابية.
وقد يكون تكوّن الطاهر لبيب البحثي في اجتماعيات الثقافة والأدب، وصلته بالثقافة الفرنكوفونية، السوسيولوجية والأنثروبولوجية والأدبية، وكذلك بالتراث العربي الكلاسيكي، جنّباه تلك اللغة الروائية الشفوية الدارجة التي لا تنطوي على شخصية كتابية وثقافية خاصة ومحدّدة. فلبيب كان قد بدأ مساره الثقافي والبحثي في باريس بدراسة عن "سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا" لنيل شهادة دكتوراه. وصدر بحثه هذا باللغة الفرنسية سنة 1972، قبل ترجمته إلى العربية مرات عدة، الأخيرة من ترجمة الكاتب نفسه.
في "في انتظار خبر إن" - وهي روايته الأولى - يسجل لبيب تجربته الحياتية والذهنية في مدينة بيروت العقد الأول من الألفية الثالثة (2000- 2011) بوصفه مثقفا وباحثا ومترجما ومشرفا على "المنظمة العربية للترجمة". وهو في طيات السرد يحاور بيروت وصورها، إضافة إلى محاورته نفسه ومخزونه الثقافي في مرايا المدينة، وتحديدا رأس بيروت وشارع الحمراء ومقاهيه الكثيرة، حيث أقام وأنشأ صداقات متنوعة في الوسط الثقافي البيروتي، ومنها علاقاته الغرامية.
ونعلم في سياق السرد أن الراوي شرع في تدوين يومياته، انطباعاته وملاحظاته الحسّية والذهنية وملاحظاته عن المدينة - الشارع (الحمراء) ومقاهيه التي يرتادها مرات في يومه. وهو كان قد دخل بيروت مزودا بصورها الكثيرة: "أرصفة وأناقات تستنسخ باريس السنوات المجنونة". أي سنوات الستينات والسبعينات من القرن العشرين. "إعلان من بداية السبعينات (البيروتية) عن فيلم قطط شارع الحمراء" الشهير آنذاك. وهذه الصور وسواها طالعته على جدران غرفة الفندق الذي نزل فيه ليلة وصوله إلى بيروت سنة 2000. ولا بد من التذكير هنا بأن تلك الصور البيروتية كانت قد صارت فائتة أو مفوتة منذ عقد التسعينات الذي تلا سنوات الحروب الأهلية في لبنان (1975- 1990).