في الأعوام العشرين الماضية، بدا أن تركيا قد اتخذت قرارها في صراعها الداخلي المديد حول هويتها ووجهتها. كما أن انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسا بعد معركة سياسية وإعلامية ضارية في مايو/أيار، يأتي في سياق هذا المسار. فانتصاره على خصومه من العلمانيين واليساريين وبعض القوميين المتطرفين والحزب الممثل للأكراد، ينبغي أن لا يقتصر تفسيره على مهارات الرجل التي لا تضاهى في السيطرة على المشهد السياسي التركي ولا في ظروف لم تؤات الخصوم.
ثمة دلالة كبيرة تحملها الانتخابات الأخيرة التي جاءت بعد شهور قليلة من الزلزال المدمر في فبراير/شباط الماضي ووسط أزمة اقتصادية أعادت تركيا عشرين عاما إلى الوراء في معدلات النمو والتضخم.
إن تفضيل الناخبين، ولو بهامش قليل وأعداد صغيرة، لأردوغان على منافسيه الذين ركزوا على سلسلة النكسات الاقتصادية والفضائح التي حفلت بها سنوات حكم زعيم حزب العدالة والتنمية، يشير إلى مسائل مثل الهوية والثقافة والعلاقة مع الآخر، في الداخل والخارج، والمكانة التي تطالب بها فئات اجتماعية اعتبرت نفسها خارج النظام على مدى عقود، تتقدم على الشأن الاقتصادي المباشر أو “قضية البصلة” كما شرحها مرشح حزب الشعب الجمهوري كمال كليشدار أوغلو.
الحل “السحري” الذي جاء به أردوغان منذ توليه رئاسة بلدية إسطنبول في تسعينيات القرن الماضي ممثلا حزب الرفاه الإسلامي، يقوم على إلغاء التناقض الذي اعتبره كثير من السياسيين الأتراك غير قابل للتسوية بين الهوية المتضمنة العناصر الدينية الإسلامية والتراثية العثمانية مع ما تحمله من روابط مع الشرق العربي– الإسلامي والتي يعلن كثير من الأتراك، خصوصا في المناطق الريفية والطبقات الفقيرة الانتماء إليها أو التمسك بها إلى حد ما، وبين العلمانية الصارمة التي وضع أسسها مصطفى كمال أتاتورك ونشأت الجمهورية التركية قبل مئة عام في ظلها.
علمانية الضرورة
بدورها، لم تأت العلمانية التركية من فراغ كما هو معروف. بل هي نتيجة نقاشات وأزمات ربما تكون قد بدأت منذ أطلق القيصر الروسي نيقولاي الأول في أواسط القرن التاسع عشر وصف “رجل أوروبا المريض” على السلطنة العثمانية التي كان يطمح إلى انتزاع المزيد من أراضيها وضمها إلى إمبراطوريته.
الجدير ذكره، أن نيقولاي الثاني كان “بطل” واحدة من أقسى الحروب التي خاضتها روسيا ضد السلطنة العثمانية في شبه جزيرة القرم التي– للمفارقة- لا تزال موضع نزاع إلى اليوم. يومها وقف الغرب ممثلا بفرنسا وبريطانيا إلى جانب تركيا لمنع التمدد الروسي جنوبا وللحيلولة دون الهيمنة الروسية على الأقليات المسيحية في السلطنة، إضافة- بطبيعة الحال- إلى الاعتقاد أن التعامل مع الرجل المريض أسهل على الأوروبيين من مواجهة أطماع القيصر الروسي التي لا حدود لها.
واحد من أسباب إطلاق تسمية “الرجل المريض” على تركيا والتي ستتبناها الحكومات والصحف الأوروبية لاحقا هو اختلاف بنيوي وعميق بين طريقتين للحكم لم تعودا قابلتين للتعايش معا. فمع الثورة الصناعية ونشوء الرأسمالية وبروز الحركات القومية والدولة الوطنية، زاد الضغط على السلطنة من خلال بروز الوعي القومي لدى الشعوب الأوروبية التي كانت في إطار الإمبراطورية العثمانية.