لا أستطيع أن أجزم ما إذا كانت معرفتي بالرواية الديستوبية حدثت من قبيل الصدف الغريبة، أم إن المكان والزمان المناسبين كان لهما دور خفي في ذلك. غير أنه من المؤكد أن شيئا ما، لعله الهروب من شبح الموت، أوحى لنا بأن نحتمي من القصف المفاجئ داخل ذلك البيت شبه المهدّم بالقرب من مقطع السكّة، في الطريق بين النبعة وبرج حمود وسن الفيل في بيروت.
إلى إيفلين
كان ذلك عام 1977، مع اشتداد أوار الحرب الأهلية اللبنانية ودخولها في نفق مظلم. في أثناء بحثنا، بلا طائل، عن الطعام في أرجاء المنزل، وجدت بعض الكتب المبعثرة في غرفة المعيشة، تعلوها طبقة سميكة من الغبار، والشعارات المدونة على الجدران، من مثل "أبو الموت مرّ من هنا"، كانت توحي أن زوارا آخرين، من المدنيين ومن الميليشيات المسلحة، قد سبقونا في اللجوء إلى هذا المأوى أثناء الانتقال من حي إلى حي، ومن بيت إلى بيت، قبل الوصول إلى مكان آمن خارج المدينة. بصمات الأحذية العسكرية كانت واضحة في كل مكان، حتى فوق الكتب. دفعني فضولي لأتناول أحدها وأتصفحه جالسا على حافة كنبة مهترئة تبرز من شقوقها النوابض المعدنية. لفت انتباهي في الصفحة الأولى إهداء مكتوب بخط أنيق: إلى إيفلين... دُمْتِ لي ذخرا.
الرطوبة لم تترك أثرا لتوقيع العاشق المحبّ أو الزوج ولا للتاريخ. استهواني عنوان الغلاف، "فهرنهايت 451"، ربما لغرابته، وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي منكبا على المطالعة رغم دوي قنابل الهاون ولعلعة الرشاشات الثقيلة في الأحياء المجاورة. أحد أفراد مجموعتنا، وكان نزقا ولا يحتمل الجوع لأكثر من عدة ساعات، خرج وهو يوبّخنا بأقسى العبارات لعدم مبالاتنا، وعاد بعد ساعة تقريبا حاملا بين يديه ربطتين من الخبز وأربع علب سردين وبعض البصل والبندورة. تناولنا طعامنا دون أن نوجه إليه أي سؤال، لكنه أصرّ على أن نعرف أنه كاد يفقد حياته من أجل الحصول على هذه الغنيمة من بقّال أرمني. وأضاف: معظم المنازل مضاءة بالحريق، كل شيء يحترق ويتحول إلى رماد.
ثم يُحرق الرماد أيضا، أضفت في ذهني، كما في الرواية التي بدأت بقراءتها، وأودعتها بكل حرص في جعبتي قبل أن نغادر البيت، رغم تحذير راي برادبوري من أن القراءة أو حتى مجرد امتلاك الكتب، يعتبران جريمة يجب أن يعاقب عليها بشدة. في الطريق إلى الحازمية، من بين الأحراش، اكتشفت أنني لم أعد أميز بين إيفلين وكلاريس ماكليلان، بطلة الرواية، فقد كنت أحلم بفتاة ذات روح نقية وعقل حرّ تُقنع أولئك المتقاتلين، أو بالأحرى تقنعنا جميعا بأن نتوقف عن حماقاتنا، مثلما فعلت كلاريس مع غي مونتاغ، وتعيد لنا إنسانيتنا. منذ ذلك الوقت، قرأت كثيرا من هذه الروايات وباتت لدي قناعة بأن هذا النوع الأدبي ربما هو أكثر ما يعبّر عن واقعنا رغم أن أحداثه تقع دائما في المستقبل، إذ اكتسبت الروايات الديستوبية جمهورا عريضا بين الفتيان، وتحوّلت مع مرور الزمن إلى ظاهرة أدبية وسينمائية تجارية تدرّ أرباحا كبيرة.