مثل تنبؤات الطقس، وتوقيت هطول المطر أو هبوب العواصف، لا يمكن التنبؤ بأعمال الشغب في صورة علمية ودقيقة، ولا يمكن معرفة على وجه الدقة كيف ولماذا ومتى انطلقت الشرارة الأولى التي أشعلت الشارع برمّته وحولته إلى كتلة من لهب.
لم تكن أعمال الشغب التي شهدتها ضواحي باريس ومناطق متفرّقة من فرنسا، بالحدث الفريد، فمنذ القرن الماضي وهي تقع في أنحاء العالم بما فيها بعض الدول العربية، لذا فالمتوقع أن دوافع حدوثها ليست واحدة، بل تختلف باختلاف الظروف. بشكل عام، غالبا ما تنطلق الشرارة الأولى من حدث إنساني أو اجتماعي ما، فتنحرف القضية لتصبح غضبا جارفا، يتمدد ويشتعل في كل مكان وتتعدد التجمهرات والمطالبات والاحتجاجات فيختلط الحابل بالنابل، وقد ينسى البعض الهدف الأساسي وتُختلق أسباب أخرى وتثار التنبؤات والشائعات. فكيف يفسر علم النفس الاجتماعي سيكولوجيا الحشود والعنف الجماعي؟
اهتمّت دراسات علمية بأعمال الشغب بالاعتماد على مقابلات أجريت مع من ارتكبوا افعالا مرفوضة مثل السرقة والسطو على المحلات التجارية، حيث يقلل هؤلاء فداحة أفعالهم وسط ما يدور من أحداث النهب والحرق العمد والعنف ضد الشرطة، إذ يلقون اللوم في ذلك على "الانهيار الأخلاقي" لدى الطرف الذي يواجهونه.
ففي استطلاع للرأي أجرته صحيفة "غارديان" للتعرف الى دوافع أحداث الشغب، أجاب 82٪ من المواطنين العاديين أن السبب الأهم هو "الانهيار الأخلاقي" في حين أجاب 56٪ من مثيري الشغب أنفسهم أن السبب أيضا هو الانهيار الأخلاقي وهي نسبة تطاول أكثر من نصف المسؤولين عن أعمال الشغب تلك. وأوضح تقرير حمل عنوان "إعادة النظر في أعمال شغب" نشر في مارس/آذار 2022 للباحث في جامعة هارفارد نك روبنسون، أن مرتكبي أعمال الشغب يلقون باللوم على رجال الشرطة باعتبارهم السبب في التأجيج وإثارة الغضب نتيجة سوء تعاملهم. وعلى الرغم من أن تلك المبررات قد تبدو متناقضة وغير مقنعة بين ما يقومون به من سلوك، ولوم غياب الضمير الأخلاقي عند الطرف الآخر، لكنها تتفق مع مئات المقابلات البحثية التي أعرب فيها مثيرو الشغب عن أسفهم أو قلقهم أو خيبة أملهم مما رأوه يدور حولهم. يثير الاهتمام أن تبريراتهم تلك تكشف لنا أن حشود مثيري الشغب - في بعض الأحيان - تمارس درجة معينة من ضبط النفس الأخلاقي. يسعى العديد من مثيري الشغب إلى تقديم تفسيرات أخلاقية لما يعتبرونه "سلوك سرقة مبررا"، فهم يسرقون المتاجر ذات العلامات التجارية المعروفة لأنها تستغل الضعفاء والعمال. وقد برّر آخرون أنهم يتجنبون السطو على المحلات الصغيرة حفاظا على الاقتصاد المحلي وعلى هذه المشاريع التجارية النزيهة. في إحدى المقابلات البحثية قال شاب في التاسعة عشرة من عمره، سرق من متجر يحمل علامة تجارية كبرى: "كنت أعي ما أفعله، كنت آخذ القليل من تلك الحيتان، وما أخذته لن يؤثر عليها في أية حال". كما برّر كثيرون أن ما يقومون به هو ما يودّ كل فرد من أفراد المجتمع فعله.
هناك ثلاثة تفسيرات نظرية "كلاسيكية" للجمهور لا تزال قائمة وتجب إعادة النظر في صحتها، أولها: "نظرية الغوغاء mob theory"، التي تشير إلى أن الأفراد يفقدون إحساسهم بأنفسهم عبر ما يسمّى "انتفاء الفردية" de-individulisation ، فيخسرون العقل والعقلانية في خضمّ وجودهم ضمن حشد من الناس، وبالتالي يفعلون أمورا قد لا يفعلونها وهم بمفردهم.
التفسير الثاني أن العنف الجماعي هو نتاج التقارب بين الأفراد "السيئين" أو المجرمين الذين يتحدون في المكان والزمان نفسيهما ويمارسون ميولهم الشخصية العنيفة معا.
أما التفسير الثالث فهو ما ذكره كتاب "الغوغاء المجنونة Mad Mobs " الصادر عام 2011 حول أعمال الشغب الإنكليزية من أن "السيئ يقود المجنون، فالأشرار وعديمو الضمير يستغلون سذاجة الحشود لاستخدامها أداة للتدمير".
ما الذي يحدث فعلا؟
عندما يقوم الناس بأعمال شغب، فإن سلوكهم الجماعي لا يكون طائشا. قد يكون إجراميا في كثير من الأحيان، لكنه سلوك منظم ومتماسك وله معنى وغاية ونية مدروسة فهم يعرفون تماما ماذا يحدث وكيف ولماذا
على الرغم من أن هذه التفسيرات غالبا ما تتكرّر في وسائل الإعلام، إلا أنها لا تأخذ في الحسبان ما يحدث بالفعل أثناء أعمال الشغب. ويرفض علم النفس الاجتماعي المعاصر التفسيرات الكلاسيكية باعتبارها غير كافية بل ويحتمل أن تكون خطرة كونها تفسر ما يقوم به هؤلاء بأنه "سلوك طائش" أو "سلوك جنوني". بينما الحقيقة هي أن السلوك الجماعي لا يكون طائشا عندما يقوم الناس بأعمال شغب. قد يكون إجراميا في كثير من الأحيان، لكنه سلوك منظم ومتماسك وله معنى وغاية ونية مدروسة فهم يعرفون تماما ماذا يحدث وكيف ولماذا وإلى أين يتجهون، وهذا ما تفسّره نظرية الهوية الاجتماعية بأن الجماعة تتشكل لهدف وتتعزز الجماعة بتعزيز قيم الانتماء داخل الجماعة والعداء لمن هم خارجها وإقصاء كل من يقف ضد أهداف تلك الجماعة الداخلية ويشكلون ما يسمى الهوية المشتركة. ولمعالجة أسباب هذا العنف يجب إدراك هذه الحقيقةوعدم التهاون في شأنها.
حلل ستيف رايتشر وهوأحد علماء النفس الاجتماعي المهتمين بسلوك الحشود، أحداث سانت بول عام 1980، في بريستول إنكلترا. وأظهر أن تصرفات الحشد كانت محكومة بالشعور المشترك للأفراد بانتمائهم الى هوية اجتماعية باعتبارهم أعضاء في مجتمع سانت بول. وقد حدّدت هذه الهوية من خلال معارضة مشتركة للشرطة، التي وصف أفرادها بـ"المعتدين" الذين يهاجمون مجتمعهم المحلي.
خلاصة بحوث علم النفس الاجتماعي في فهم سلوك الحشود هي الآتية:
أولا: يميل الناس إلى الشغب عندما يكون لديهم شعور بأنهم يعامَلون بطريقة غير شرعية وبأن مطالبهم لا يُنظر فيها حين يقدمون "شكاوى مهذبة".
ثانيا: الأحداث التي تؤدّي إلى أعمال الشغب تعبر عن معتقداتهم المشتركة والراسخة التي لم يُلتَفت إليها، وهي التي تمنحهم إحساسا بالغضب المشترك وتمكنهم من الرد. فأعمال الشغب ليست انفجارات لا معنى لها، إنما تعكس أنماط سلوك الجمهور ووجهة نظر مثيري الشغب حيال العالم: إحساسهم بمن هو الصديق وبمن هو العدو.
فكل ما يجري هو علامة على كيفية رؤية هؤلاء لعالمهم، سواء أكنا نتفق معهم أم لا. من المهم أن نفهم طبيعة مظالمهم، إذ سنكسب الكثير من خلال التأمل والدراسة ومعرفة دوافع ما يفعلونه بدلا من مجرد "شيطنتهم".
حين نتخيل بدايات شرارة الشغب التدريجي الناتجة في طبيعة الحال من الاستياء أو المظالم التي يحملها الأشخاص الذين يعيشون في منطقة الشغب، فهذه المشاعر تمثل الظروف الأساسية لنشوئها، وهي الوقود الذي يغذي النار، وفي طليعتها الظروف الاقتصادية والفقر المدقع. فمن يمارسون أعمال الشغب يرون أنفسهم محرومين مقارنة بأفراد الطبقات العليا. أو هم يفعلون ذلك كرد فعل على الحرمان السياسي، إذ تندلع أعمال الشغب في المناطق التي تكون فيها مجموعات معينة ناقصة التمثيل سياسيا وغاضبة من افتقارها إلى إيصال مطالبها للسلطة. وقد تمثل أعمال الشغب رد فعل على الفصل العنصري/ العرقي، الذي غالبا ما يقترن بالحرمان الاقتصادي والاستبعاد السياسي، فكما قال مارتن لوثر كينغ "الشغب لغة من لا يَسمعون"، ولعله أراد أن يضيف: "… ولغة من لا يُسمَعون".