في وسائل الإعلام المحلية العراقية وعلى مختلف منصات وسائل التواصل الاجتماعي العراقية، ثمة سيل يومي من التحذير والنقد والإدانة والتحريض والعنف اللفظي والانفعال الوجداني ضد السفيرة الأميركية في العراق ألينا رومانوفسكي. لا يتعلق الأغلب من الادانة بأي سلوك دبلوماسي أو خطاب سياسي، تجاوزت فيه السفيرة "أصول" وقواعد عملها، بل يتمركز حول هويتها، الشخصية والعامة؛ باعتبارها امرأة وأجنبية، أميركية تحديدا، وذات حضور وتفاعل وتأثير على الملفات السياسية والاقتصادية والمدنية في البلاد.
ينطلق هذا السلوك والوعي العام ويُبنى على نوعية من "الوطنية المزيفة"، المنتشرة بكثافة في بلدان منطقتنا. هذه الوطنية التي يُمكن تصنيفها كوريث شرعي لما سبقها من "قومية خطابية" و"إسلام سياسي حربي"، كانا مسيطرين على ساحة الوعي والكلام العام طوال عقود كثيرة مضت. فهي مطابقة من حيث المنطق والديناميكيات وآليات البناء وشكل الوعي، لما كانتا عليه تلكما النزعتان من قبل.
فمثلهما، تخلق وتتخيل هذه الوطنية عالما قائما على الانحياز، أساسه الـ"نحن" مقابل الـ"هم". مكرسة وضعية دفاعية غير تفاعلية ورافضة للاندماج والتكامل مع باقي العالم؛ فمجموع ما تقوم به السفيرة الأميركية في العراق وتقدمه حكومتها من دعم لعشرات المؤسسات المدنية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والإنمائية العراقية، بلغ حجم إنفاقها خلال العام الماضي فقط 164 مليون دولار، لو قامت به أية جهة أخرى، مجهولة الهوية مثلا، لكانت محل ترحيب وتهليل من القائمين والمؤمنين بهذه الوطنية. لكن، ولأن السفيرة ومؤسستها أجنبيتان عن الداخل العراقي، فإن الوطنية مندفعة ومصرة على التشكيك والتحذير وخلق المخاوف منها، مثل كل وأي شيء خارجي.
هذه الوطنية التي يُمكن تصنيفها كوريث شرعي لما سبقها من "قومية خطابية" و"إسلام سياسي حربي"، كانا مسيطرين على ساحة الوعي والكلام العام طوال عقود كثيرة مضت
وفي السياق نفسه، وأيضا في مطابقة للأبوين الشرعيين سالفي الذكر، فإن الوطنية العراقية "ذكورية" بالضرورة، لا يكشفها طابع الكلام والعبارات والأحكام التي تُطلق على السفيرة الأميركية فحسب، المنصبّ حول هويتها الجندرية وهندامها وحضورها الشخصي، بل يتجاوز ذلك، ليغرق في بركة الأوصاف العنيفة والعبارات المقتضبة والأحكام القطعية والتعابير الجنسية، التي تكشف البنية الذكورية ووعيها ووجدانها الباطن وتفاعلها ورؤيتها للآخر/الأجنبي، كشيء قابل للسبي.
على أن مصدر "الزيف" في هذه الوطنية العراقية- مثل غيرها الكثير، وعلى منوال القومية الخطابية والإسلام السياسي الحربي- كامنٌ في جهلها الرصين، بذاتها وتاريخ بلدها، بمجتمعها وحقائقه، بخداعها لذاتها وغشها للآخرين، أو توهمها بقدرتها على فعل ذلك؛ فالوطنية العراقية لا تعرف مثلا أن هذا العراق، كله، هو من إنتاج وتشييد سيدة أجنبية أخرى، كانت شبيهة بالسفيرة الأميركية، كانت بريطانية واسمها "المس بيل"، مستشارة المندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس. فلولاها، ودون تأثيرها الحاسم على عموم الاستراتيجية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في مؤتمر القاهرة للمستعمرات البريطانية عام 1921، والذي شيّد وحدد ما هو "العراق" راهنا، لما كان هذا الكيان على ما هو عليه أساسا، على الأقل لكان دولة دون ولاية الموصل، التي تضم إقليم كردستان ومعظم المناطق السُنية الشمالية والغربية، وغالبا دون البصرة نفسها، وإلى حد بعيد متروكا لنزعات زعماء العشائر وقادة الطرق الدينية. لكن "المس بيل" هي من أصرت على أن يكون العراق كيانا عابرا للقوميات والطوائف والمناطقيات والأديان، كبيرا وقابلا للحياة، بمؤسسات دستورية وتنفيذية وعسكرية واقتصادية حديثة.
لذات سوء المعرفة، فإن هذه الوطنية المتدفقة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وحتى في الحياة العامة، لا تدرك كم هي مُسيسة ومدارة ومُتحكم بها من قِبل كتلة من الجهات السياسية والأجهزة الدعائية. جهات تملك نزعة سياسية وآيديولوجية للاستيلاء على العراق، من خلال فصله وعزله عن العالم، عبر تحويله إلى كيان حربي شبيه بدول مثل إيران وكوريا الشمالية. لأجل ذلك، تنفذ برنامجا كاملا لإغراق الكلام العام بعبارات وشعارات ومخيلات وطنية مزيفة، عبر جيش مدعوم ومنظم من "الذباب الإلكتروني"، وليس للمؤمنين بهذا الزيف الوطني سوى الانجرار إلى تلكم الاستراتيجية. فهذه الوطنية ليست وجدانا جمعيا أو تمثيلا لإرادة عامة، بل مجرد مشروع سياسي مُدار ومنظم، محصلته الختامية هي تكريس الهيمنة عبر إغلاق البلاد على سكانه.
مصدر "الزيف" في هذه الوطنية العراقية- مثل غيرها الكثير، وعلى منوال القومية الخطابية والإسلام السياسي الحربي- كامنٌ في جهلها الرصين، بذاتها وتاريخ بلدها، بمجتمعها وحقائقه، بخداعها لذاتها وغشها للآخرين
في الإطار ذاته، فإن الوطنية العراقية انتقائية، ترصد أحكامها واندفاعتها تجاه فاعل بذاته، وليست قائمة على جذر يعتبر "العراق" واستقلاله الكياني وسيادته الداخلية مصدرا لانفعالاتها. فبينما تنشط وتزبد ضد جهة مثل السفيرة الأميركية، فإنها تصمت وتهلل لتداخلات تفصيلية وسيادية لجهة إقليمية مثل إيران. على أن ذروة غش الذات في هذه "الوطنية المزيفة" كامن في طبيعة وعيها ومعرفتها بالمجتمع العراقي. فحينما تتخيل المجتمع العراقي "كتلة واحدة صماء"، قائمة على "قلب رجل واحد"، فهي تعاند وترفض كل الوقائع اليومية لهذا المجتمع، الذي يطنب جزء واسع منه للتدخلات الإيرانية، بينما يراها الجزء الآخر "عدوانا سافرا"، وتنعكس الآية فيما خص التدخلات وعمليات القصف التركية.
لكن، هي يعني كل ذلك أن كل "وطنية" مزيفة بالضرورة، داخل العراق وخارجه؟
دون شك، لا. لكن ثمة آلية تفصيلية يمكن الفرز على أساسها، تحدد الزائف من الحقيقي. فمثلما كانت القومية العربية مثلا، في أوائل عهدها وتكوينها تيارا حداثيا وتنويريا وتحرريا، قائما على قيم تواصلية وتكاملية مع العالم، وتبتغي التخلص من إرث الفظاعة العثمانية، فقد تحولت في أزمنة أخرى إلى جهاز سياسي قمعي، على يد أنظمة مثل الناصرية والبعثية، القامعة لشعوبها والمقاطعة والمعادية للعالم. وكما كان الإسلام الاجتماعي فضاء رحبا لتعايش الجماعات والتكوينات الأهلية، تحول مع عمليات التسييس إلى مجرد تنظيمات مغلقة مناهضة لتحديث المجتمعات وتواصلها مع الكل العالمي، فإن هذه الوطنية الزائفة هي شيء من ذلك، متحول عن جذر تكويني، كانت ملامحه واضحة خلال خمسينيات القرن المنصرم، في بلدانٍ مثل سوريا والعراق.