الحياة في مكان آخر...والموت المقيم

الحياة في مكان آخر...والموت المقيم

يقص ميلان كونديرا الذي غادر عالمنا، مأساة جيله في روايته "الحياة في مكان آخر": الأحلام إذ تتكشف عن كوابيس وتعود على الحالمين بالمرارة واليأس والهزيمة التي لا مخرج منها سوى بالانتقال إلى "مكان آخر" يتقبل الهارب ويمنحه فرصة ثانية.

رواية كونديرا هذه، الأقل شهرة من "خفة الكائن التي لا تحتمل" ومن "كتاب الضحك والنسيان"، شكلت عند صدورها بيانا سياسيا قاسيا ضد الحكم الشمولي الذي كانت تخضع له تشيكوسلوفاكيا السابقة، موطن الكاتب الذي هجره بعد صدمته بالخدعة التي كان يعيش في داخلها ويتصور أنها الطريق إلى مستقبل مشرق وعادل.

لكن الرواية تصح في الوقت ذاته، لوصف خيبات أجيال عدة من بلدان ومشارب شتى، بانهيار أحلامها وتحطم آمالها على صخور الواقع الوعر الذي يأبى أن يتغير والذي يعود بعد كل محاولة ليسفر عن وجه أقبح من السابق.

رواية كونديرا "الحياة في مكان آخر" شكلت عند صدورها بيانا سياسيا قاسيا ضد الحكم الشمولي الذي كانت تخضع له تشيكوسلوفاكيا السابقة

جيلنا، على سبيل المثال، الذي ولد في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، ووعى على الدنيا مع تمدد العمل الفدائي الفلسطينيي وشعاراته الثورية وتقديسه للكفاح المسلح واعتقاده اعتقادا لا يأتيه الشك لا من أمام ولا من خلف بصواب "القضية" وضرورة إقامة العدل على هذه الأرض "الآن وليس غدا" على ما تقول أغنية فيروز، يشبه في كثير من الجوانب ذلك الجيل الذي تفتحت عيون أبنائه على الحكم الشيوعي في تشيكيا وسلوفاكيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تُبنى الاشتراكية بإشراف الرفاق السوفيات، قبل أن تبهر حقيقة الخدعة الساطعة مواطني البلدان الاشتراكية: ما يُقام هو قلعة لخوض الحرب ضد الغرب، ما يتطلب التضحية بكل القيم وبكل الشعارات وبالمواطنين أنفسهم في سبيل الفوز في هذا الصراع الوجودي. السجون والمشانق والمنافي أدوات للنصر الآتي، على ما زعم من أنشأ تلك الحكومات. 


بطل كونديرا، وجد بعدما انزاح عن وجهه قناع الشعارات الحزبية أن لا سبيل إلى الحياة سوى في الهجرة. 


أما الأجيال العربية التي آمنت وضحّت، فكان عليها أن ترتشف من كأس خداع النفس مرات عدة. مرة بحمل البندقية لمواجهة أعداء الخارج والداخل. ومرة بتبني شعارات التغيير السلمي في وجه طغم من عتاة القتلة الذين استولوا على السلطة لسنوات طويلة. ومرة للظن أن ما ينقص هو النظرية الاجتماعية– السياسية القادرة على عقد مصالحة عربية بين التراث والحاضر، بما يفتح أبواب المستقبل السعيد. ومرة للبناء على وهم حاجة "الجماهير" إلى من يرشدها إلى مصالحها. وكان لدينا ما يكفي من الجرأة لتحديدها ورسم الطريق إليها قبل أن نفاجأ بأن "الجماهير" سارت في الاتجاه النقيض لما اعتقدناه طريقا قويما. النتيجة هنا كما هناك في بلد كونديرا: جبال من الانقاض والجماجم وسيَرٌ عن جحيم المعتقلات ومخيمات اللاجئين. 
 

الأجيال العربية التي آمنت وضحّت، كان عليها أن ترتشف من كأس خداع النفس مرات عدة. مرة بحمل البندقية لمواجهة أعداء الخارج والداخل. ومرة بتبني شعارات التغيير السلمي في وجه طغم من عتاة القتلة الذين استولوا على السلطة لسنوات طويلة

في لبنان على سبيل المثال، ساد وهم لدى شرائح عريضة من شباب تلك المرحلة يقوم على أن العنف هو الطريق الأقصر إلى فرض تغيير سياسي جذري. الحرب الأهلية بدأت في 1975، غنية بالأحلام الوردية التي راودت أذهان الآلاف، في حين كان الأكثر حكمة يعلم أن لا طريق إلى الجنة تشقه بندقية في بلد جُبل ترابه بدماء ضحايا المذابح الطائفية المتكررة منذ قرون. 


التغيير السلمي الذي كانت آخر مظاهره "انتفاضة تشرين" (أكتوبر) 2019، كانت القشة التي قصمت ظهر حصان الأوهام الجامحة بالتغيير السلمي– بعد فشل سابقه العنفي- وأعلنت أن اللبنانيين بأكثريتهم الساحقة يريدون البقاء في معازلهم الطائفية وفي ظل زعاماتهم المتخلفة والدموية. 


وعلى الرغم من أن مكتشفي أن "الحياة في مكان آخر" ليسوا قلة في لبنان، إلا أنك تستطيع أن تراهم يعودون في كل صيف إلى حيث تعرضوا للذل وتجرعوا سم الخيبة. فللموت هواته ودعاته وأنصاره أيضا وإن كانوا يعيشون في "مكان آخر". فيما تبقى الأسئلة تحوم فوق جثث القتلى عن اسباب الفشل الدائم والقدر الذي لا يني يتكرر لينتج الخراب و"الشهداء" ومصاصي الدماء.    
 

font change