بهجة جنائزية
وفي رواية كونديرا "فالس الوداع" تحضر بهجة الكائن البشري بالحياة، حياته، حضورا جنائزيا، تماما كما تحضر وتجتمع البهجة الجنائزية في كلمتي فالس ووداع. فمدينة منتجعات الكهول التي تدور فيها أحداث الرواية وتلتقي شخصياتها، تكاد تكون ديكورا جنائزيا للبهجة التي تصبو إليها الشخصيات التي تجسّد نماذج أساسية لصبوات الكائن المتعارضة: الأمومة والأبوة، الحرية والانعتاق، الزواج والخيانة الزوجية، غريزة الإنجاب والتكاثر، الحب والانجذاب الجنسي، الكراهية، والبواعث النفسية والاجتماعية والوجودية التي تتأسس عليها الروابط العاطفية، والتبادل العاطفي بين البشر.
فسعي البشر إلى التملك والارتباط الدائم والتكاثر ينطوي في فكر كونديرا الروائي على مركّب يخالف الثبات والإخلاص والصدق وسواها من المثالات الأخلاقية السامية التي يرفعها البشر إلى مصاف المقدّس. والأرجح أن هذه الرؤية من علامات أثر الفلسفة النيتشوية (نسبة إلى فريدريك نيتشه) في أعمال كونديرا الروائية كلها تقريبا.
كتاب تعزية وصورة شخصية للكاتب الراحل ميلان كونديرا في مكتبة ميلان كونديرا، وهي جزء من مكتبة مورافيا في برنو، جمهورية التشيك، 12 يوليو/ تموز 2023.
فصورة المرأة المرضعة، وابتسامة الأطفال، وجري معشوقين شابين في حقل من السنابل مثلا، تبعث على السخرية والتهكم في الرؤية الكونديرية. وهذا ما تعبّر عنه في "فالس الوداع" شخصية من شخصياتها (جاكوب) الذي يرى أن نسبة غباء الفرد تزداد كلما ازدادت رغبته في التكاثر. أما أفضل الأفراد، فأولئك الذين لا يتجاوز نسلهم الطفل الواحد. هذا فيما حافظ هو (جاكوب) على المقعد الذي إلى جواره في سيارته، خاليا طوال 45 سنة من حياته. لذا في مستطاعه مغادرة بلاده نهائيا وفي سهولة فائقة، بلا حقائب، وحيدا، وبلا حسرة، ومفعما بإحساس خادع من حيوية الشباب.
وجاكوب "فالس الوداع" يشبه الرسامة سابينا في "خفة الكائن..."، والتي حين تقرر الهجرة من بلدها إلى أميركا، ترغب في أن تُحرق جثتها بعد موتها، ويذرى رمادها في مياه المحيط، كي لا يبقى أثر لوجودها بعد رحيلها عن هذا العالم. ومثل هذا التحرر من أثقال الوجود البشري، جذوره وماضيه، هو الذي يُرِي الراحلَ من بلده أن العالم جميل، ساحر وأخاذ، ويمكّنه من مخاطبة كل من يلتقيهم في اللحظات الأخيرة قبل رحيله، مخاطبة منطلقة حرة، لأن كلماته ستكون بلا عواقب. وكأن هذه الكلمات الحرة، تصدر عن ما بعد مصيره. وهذا ما يجعل الكلمات خفيفة لاهية، على عكس الكلمات التي تصدر عن روابط ثابتة وخانقة التي يحرر البشر منها الرحيلُ والرحلة تحررا ساحرا. أما أشخاص الروابط الثقيلة، فالموت وحده هو ما يحرّرهم من أثقال الوجود وآلامه. أما جاكوب الذي يغادر بلده، فلا يربطه بالعالم سوى جسمه، على نحو موقت وعابر، ولحظة بعد لحظة.
أين نحن اليوم من عالم كونديرا الروائي وفلسفته هذه؟
ها نحن لا نزال غارقين في رحم روابطنا الطبيعية والدموية التي لا نتصوّر، بعدُ، احتمالا للعيش والوجود والاجتماع من دونها. ثم إننا نصم بالخيانة والمروق كل محاولة خروج من أثقال هذه الروابط، إلى حرية الكينونة. وكان التشاؤم الكونديري التهكّمي اللاذع، قد حمله على الشك بروابط الأمومة والأبوّة والبنوّة في واحدة من "شطحاته" الروائية - الفلسفية، فكتب لو أن البشر يولدون من بيوض مجهولة المصدر في غابة، للخلاص من الروابط الأولية أو الأصلية المقدسة.
مكتبة ميلان كونديرا، وهي جزء من مكتبة مورافيا في برنو، جمهورية التشيك.
هجاء الغنائية الثورية
ربما من النافل القول أن الشحنة الغنائية الخطابية، كانت ولا تزال إحدى ركائز ثقافتنا الأدبية والسياسية العربية المعاصرة، قولا وعملا. فتلك الشحنة هي التي تضخّ الدم والروح في كل مشروع يتنكّب بدءا سياسيا أو ثقافيا أو توليده. وكان الباحث المغربي محمد عابر الجابري (1935- 2010) قد لاحظ في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" أن الدعوات السياسية العربية المعاصرة بكافة تياراتها، تقوم على استحضار "ممكنات عاطفية" هدفها مخاطبة "وعي جماهيري شبه خرافي". ولاحظ الباحث المصري ناجي نجيب في كتابه "كتاب الأحزان" أن أدب النهضة العربية محفوف "بأحزان المواطن الصغير من أصول ريفية". وهو منيعيش ما يشبه "مراهقة أبدية" في المدينة، فلا يبلغ سن الرشد والنضوج الذي يقيم مسافة بين الأحلام والتهاويم و"الممكنات العقلية".
لماذا نستعيد هذه الأمور اليوم في مناسبة رحيل ميلان كونديرا؟
كونديرا في براغ، تشيكوسلوفاكيا السابقة، 9 اكتوبر 1973.
لأن كونديرا جعل المصدر - النواة لكل غنائية، أكان في الشعر أو السلوك أو في الدعوات السياسية، بطلا لروايته "الحياة في مكان آخر". وذلك كي يُخرج إلى الضوء والعلن "العفن" الذي يتشبّث بكل قول أو عمل غنائي. والبطل هذا يجسّده جاروميل منذ ولادته من علاقة غرامية متسامية بين أمه وأبيه في العالم الشيوعي الشمولي الذي يجعل الغنائية في أصل نشأته وديمومته. ويبقى جاروميل الفتى والمراهق الشاب، مشدودا إلى قدره الأمومي الذي يطارده. وكلما حاول الخروج من قدره هذا ومن سطوة الأمومة عليه، يشعر أنه يقترف خيانة بحجم الخطيئة الأصلية.
وفي الأصل أو النواة من غنائية جاروميل هناك الطلاق الذي يعيشه بين الجسم والروح، بوصفه البؤرة الأساسية للشعر الغنائي، ولكل مشروع نضالي ثوري، هدفه حلم شامل لتغيير العالم. وجاروميل منذ كلفته خليته الحزبية إعداد تقرير عن الامتحانات الجامعية، راح يسمع أصداء هتافات الثورة، تماما مثلما كانت غابة من المرايا تعكس صورته الذاتية فيما هو يكتب الشعر للثورة. والأم والشعر والثورة تظلّ مسلّطة عليه مثل عيون علوية، ومن دون تلك العيون يصير عدما خالصا. هذا في حين أن الثورة تصوّر للمراهقين أن "الحلم حقيقة، والحقيقة ليست سوى حلم".
ولا شفاء للكائن من هذا التصوّر إلا بالنضج والرشد. وإذا لم يشفَ من ذلك، يتحوّل إلى شرطي ومخبر، شأن جاروميل الذي وشى بشقيق عشيقته، بعدما أخبرته أن أخاها عازم على الهرب من تشيكوسلوفاكيا - "الجنة الاشتراكية" - إلى بلاد "الشيطان الرأسمالي" في الغرب. وهو في هذا ليس سوى خائن لأحلام جاروميل الذي يتصوّر طوال حياته تلك العبارة الشعرية محفورة على شاهدة قبره: "كان يودّ الموت في لهب الثورة".
تجسّد "الحياة في مكان آخر" هجاء ساخرا للأدبيات الشعرية الغنائية التي تلابس كل ثورة وبراءة ثورية تستبطن "عفن المراهقة" الدائمة، شأنها شأن روايات كونديرا الأخرى التي تنطوي على تهكّم صارم من "الأوثان السياسية والنضالية والثقافية". ولا ينجو من هذا التهكّم كبار المفكرين الثوريين وكبار الشعراء، من لوركا إلى إيلوار.