ميلان كونديرا… هجّاءُ الولادة بعد موت الروايةhttps://www.majalla.com/node/295436/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%86-%D9%83%D9%88%D9%86%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A7%E2%80%A6-%D9%87%D8%AC%D9%91%D8%A7%D8%A1%D9%8F-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9
قد يُكنِّي رحيل ميلان كونديرا عن عالمنا (أمس الأربعاء 12 يوليو/تموز الجاري) كناية رمزية عن أن الرواية مستمرة في احتضارها حسب الراحل الكبير، بعدما جرى استسهالها كتابة ونشرا في الأسواق الثقافية العالمية كلها.
ولد ميلان كونديرا في 1 أبريل/نيسان 1929 في بوهيميا التشيكية، لأب عالم في الموسيقى. وشأن كثيرين من فتيان وشبان جيله المحلّقين في سماوات غنائية شبابهم المجنحة العمياء، انتسب إلى الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي سنة 1948، لكنه سرعان ما طرد منه سنة 1950، بسبب إصراره على حرية الفرد. ولربما كانت تينك السنتين الطويلتين كافيتين لتطبعا مزاج الروائي ميلان كونديرا وتفكيره طوال حياته. وبعدما شهد انتفاضة "ربيع براغ 1968" على النظام الشيوعي وبشاعته في مدينته ومدينة روائيِّه المفضل كافكا، وشهد إخمادها بالدبابات السوفياتية، فرّ هاربا إلى العاصمة الفرنسية سنة 1975. وكونديرا لا يبرِّئ ذاك الربيع البراغي من غنائية الشباب الطائشة على ما يُستشف من روايته "خفة الكائن التي لا تُحتمل".
وفي باريس تخلّى كونديرا عن جنسيته التشيكوسلوفاكية ولغته التشيكية - كتب بها "غراميات مرحة"،"المزحة"، "كتاب الضحك والنسيان"، "الحياة في مكان آخر"، "فالس الوداع"، "خفة الكائن التي لا تحتمل" - وحمل الجنسية الفرنسية، وتحوّل إلى الكتابة بلغة فرانسوا رابليه (توفى في 1553). وذلك إصرارا منه على تطليقه القاطع "هويات الولادة" والإرث والأهل والموطن وثقافاتها ولغاتها الواحدة التي لا تقلّ عن الإقامة في سجن، شأن الانتماء إلى الأحزاب الشمولية.
أما الرواية، ركن الحداثة والتنوير الأوروبيين، والتي لازم صعودها وتبلورها العالم الأوروبي، فليست لدى كونديرا إلا وليدة الاحتمالات واللايقين، التعارض والاختلافات، لا لتمهيدها وخنقها، بل لرعايتها، ومن دون أن يؤدي بقاؤها واستمرارها، إلى صلح وتسويات، أو إلى نزاعات وحروب.
لكن عالمنا المعاصر، حسب رأي كونديرا وفي عالم رواياته، يصرّ على ردم الإمكان واللايقين والتأرجح. أما عالم ما بعد الحداثة، أو "الحداثة السائلة"، فهو عند صاحب "خفة الكائن..." صنيع "التفاهة" حسب عنوان روايته الأخيرة التي ودّع بها كتابة الرواية واعتزل الكتابة، بعد اعتزاله مديدا الشهرة والإعلام.
والتفاهة الكونديرية تعني في ما تعنيه موت الرواية. ومن العلامات المبكرة على ذلك الموت رواية جورج أورويل البريطاني المعنونة "1984"، التي "يقرّ كونديرا بدقة وصحة استشرافه أو تشخيصه الذي يطبعه التحليل الذهني. بلا هامش يتغذى منه التحليل أو يرد إليه. فيختنق الصدى (أو الأصداء غير الذهنية). وكأن نقد رواية أورويل العالم الكلياني (أو الشمولي) الذي ينمّط الشعر والغضب والعشق، لم يسلم من عدوى هذا العالم ولم ينجُ منها"، حسب وضاح شرارة في قراءته رواية كونديرا "خفة الكائن..." في كتابة "تعبير الصور".
انتسب كونديرا، شأن كثيرين من أبناء جيله المحلّقين في سماوات غنائيّة شبابهم المجنّحة العمياء، إلى الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي سنة 1948، لكنه سرعان ما طرد منه سنة 1950، بسبب إصراره على حرية الفرد
بهجة جنائزية
وفي رواية كونديرا "فالس الوداع" تحضر بهجة الكائن البشري بالحياة، حياته، حضورا جنائزيا، تماما كما تحضر وتجتمع البهجة الجنائزية في كلمتي فالس ووداع. فمدينة منتجعات الكهول التي تدور فيها أحداث الرواية وتلتقي شخصياتها، تكاد تكون ديكورا جنائزيا للبهجة التي تصبو إليها الشخصيات التي تجسّد نماذج أساسية لصبوات الكائن المتعارضة: الأمومة والأبوة، الحرية والانعتاق، الزواج والخيانة الزوجية، غريزة الإنجاب والتكاثر، الحب والانجذاب الجنسي، الكراهية، والبواعث النفسية والاجتماعية والوجودية التي تتأسس عليها الروابط العاطفية، والتبادل العاطفي بين البشر.
فسعي البشر إلى التملك والارتباط الدائم والتكاثر ينطوي في فكر كونديرا الروائي على مركّب يخالف الثبات والإخلاص والصدق وسواها من المثالات الأخلاقية السامية التي يرفعها البشر إلى مصاف المقدّس. والأرجح أن هذه الرؤية من علامات أثر الفلسفة النيتشوية (نسبة إلى فريدريك نيتشه) في أعمال كونديرا الروائية كلها تقريبا.
فصورة المرأة المرضعة، وابتسامة الأطفال، وجري معشوقين شابين في حقل من السنابل مثلا، تبعث على السخرية والتهكم في الرؤية الكونديرية. وهذا ما تعبّر عنه في "فالس الوداع" شخصية من شخصياتها (جاكوب) الذي يرى أن نسبة غباء الفرد تزداد كلما ازدادت رغبته في التكاثر. أما أفضل الأفراد، فأولئك الذين لا يتجاوز نسلهم الطفل الواحد. هذا فيما حافظ هو (جاكوب) على المقعد الذي إلى جواره في سيارته، خاليا طوال 45 سنة من حياته. لذا في مستطاعه مغادرة بلاده نهائيا وفي سهولة فائقة، بلا حقائب، وحيدا، وبلا حسرة، ومفعما بإحساس خادع من حيوية الشباب.
وجاكوب "فالس الوداع" يشبه الرسامة سابينا في "خفة الكائن..."، والتي حين تقرر الهجرة من بلدها إلى أميركا، ترغب في أن تُحرق جثتها بعد موتها، ويذرى رمادها في مياه المحيط، كي لا يبقى أثر لوجودها بعد رحيلها عن هذا العالم. ومثل هذا التحرر من أثقال الوجود البشري، جذوره وماضيه، هو الذي يُرِي الراحلَ من بلده أن العالم جميل، ساحر وأخاذ، ويمكّنه من مخاطبة كل من يلتقيهم في اللحظات الأخيرة قبل رحيله، مخاطبة منطلقة حرة، لأن كلماته ستكون بلا عواقب. وكأن هذه الكلمات الحرة، تصدر عن ما بعد مصيره. وهذا ما يجعل الكلمات خفيفة لاهية، على عكس الكلمات التي تصدر عن روابط ثابتة وخانقة التي يحرر البشر منها الرحيلُ والرحلة تحررا ساحرا. أما أشخاص الروابط الثقيلة، فالموت وحده هو ما يحرّرهم من أثقال الوجود وآلامه. أما جاكوب الذي يغادر بلده، فلا يربطه بالعالم سوى جسمه، على نحو موقت وعابر، ولحظة بعد لحظة.
أين نحن اليوم من عالم كونديرا الروائي وفلسفته هذه؟
ها نحن لا نزال غارقين في رحم روابطنا الطبيعية والدموية التي لا نتصوّر، بعدُ، احتمالا للعيش والوجود والاجتماع من دونها. ثم إننا نصم بالخيانة والمروق كل محاولة خروج من أثقال هذه الروابط، إلى حرية الكينونة. وكان التشاؤم الكونديري التهكّمي اللاذع، قد حمله على الشك بروابط الأمومة والأبوّة والبنوّة في واحدة من "شطحاته" الروائية - الفلسفية، فكتب لو أن البشر يولدون من بيوض مجهولة المصدر في غابة، للخلاص من الروابط الأولية أو الأصلية المقدسة.
هجاء الغنائية الثورية
ربما من النافل القول أن الشحنة الغنائية الخطابية، كانت ولا تزال إحدى ركائز ثقافتنا الأدبية والسياسية العربية المعاصرة، قولا وعملا. فتلك الشحنة هي التي تضخّ الدم والروح في كل مشروع يتنكّب بدءا سياسيا أو ثقافيا أو توليده. وكان الباحث المغربي محمد عابر الجابري (1935- 2010) قد لاحظ في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" أن الدعوات السياسية العربية المعاصرة بكافة تياراتها، تقوم على استحضار "ممكنات عاطفية" هدفها مخاطبة "وعي جماهيري شبه خرافي". ولاحظ الباحث المصري ناجي نجيب في كتابه "كتاب الأحزان" أن أدب النهضة العربية محفوف "بأحزان المواطن الصغير من أصول ريفية". وهو منيعيش ما يشبه "مراهقة أبدية" في المدينة، فلا يبلغ سن الرشد والنضوج الذي يقيم مسافة بين الأحلام والتهاويم و"الممكنات العقلية".
لماذا نستعيد هذه الأمور اليوم في مناسبة رحيل ميلان كونديرا؟
لأن كونديرا جعل المصدر - النواة لكل غنائية، أكان في الشعر أو السلوك أو في الدعوات السياسية، بطلا لروايته "الحياة في مكان آخر". وذلك كي يُخرج إلى الضوء والعلن "العفن" الذي يتشبّث بكل قول أو عمل غنائي. والبطل هذا يجسّده جاروميل منذ ولادته من علاقة غرامية متسامية بين أمه وأبيه في العالم الشيوعي الشمولي الذي يجعل الغنائية في أصل نشأته وديمومته. ويبقى جاروميل الفتى والمراهق الشاب، مشدودا إلى قدره الأمومي الذي يطارده. وكلما حاول الخروج من قدره هذا ومن سطوة الأمومة عليه، يشعر أنه يقترف خيانة بحجم الخطيئة الأصلية.
وفي الأصل أو النواة من غنائية جاروميل هناك الطلاق الذي يعيشه بين الجسم والروح، بوصفه البؤرة الأساسية للشعر الغنائي، ولكل مشروع نضالي ثوري، هدفه حلم شامل لتغيير العالم. وجاروميل منذ كلفته خليته الحزبية إعداد تقرير عن الامتحانات الجامعية، راح يسمع أصداء هتافات الثورة، تماما مثلما كانت غابة من المرايا تعكس صورته الذاتية فيما هو يكتب الشعر للثورة. والأم والشعر والثورة تظلّ مسلّطة عليه مثل عيون علوية، ومن دون تلك العيون يصير عدما خالصا. هذا في حين أن الثورة تصوّر للمراهقين أن "الحلم حقيقة، والحقيقة ليست سوى حلم".
ولا شفاء للكائن من هذا التصوّر إلا بالنضج والرشد. وإذا لم يشفَ من ذلك، يتحوّل إلى شرطي ومخبر، شأن جاروميل الذي وشى بشقيق عشيقته، بعدما أخبرته أن أخاها عازم على الهرب من تشيكوسلوفاكيا - "الجنة الاشتراكية" - إلى بلاد "الشيطان الرأسمالي" في الغرب. وهو في هذا ليس سوى خائن لأحلام جاروميل الذي يتصوّر طوال حياته تلك العبارة الشعرية محفورة على شاهدة قبره: "كان يودّ الموت في لهب الثورة".
تجسّد "الحياة في مكان آخر" هجاء ساخرا للأدبيات الشعرية الغنائية التي تلابس كل ثورة وبراءة ثورية تستبطن "عفن المراهقة" الدائمة، شأنها شأن روايات كونديرا الأخرى التي تنطوي على تهكّم صارم من "الأوثان السياسية والنضالية والثقافية". ولا ينجو من هذا التهكّم كبار المفكرين الثوريين وكبار الشعراء، من لوركا إلى إيلوار.
أما الرواية، ركن الحداثة والتنوير الأوروبيين، والتي لازم صعودها وتبلورها العالم الأوروبي، فليست لدى كونديرا إلا وليدة الاحتمالات واللايقين، التعارض والاختلافات
الموتى ومسرح الدمى
يشكّل ضمور حياة الرجال المسنّين، موضوعا رئيسيا آخر من موضوعات رواية كونديرا "حفلة التفاهة". والضمور هذا كان قد راح يتجسّد في ضمور عدد صفحات رواياته كلما تقدّم في السن. فهو كان قد بلغ الـ 86 من عمره حين نشرها. ويبدو أنه كتبها في مطالع الألفية الثالثة، بعد سنين كثيرة من رائعته الأولى باللغة الفرنسية "الخلود" والتي راح بعدها يتضاءل عدد صفحات رواياته مثل "الجهل" و"الهوية". وفي العام 2007 جعل كونديرا كتابه "الستارة" مدارا للتفكير في فن الرواية - الذي خصه بكتاب سابق عنوانه "فن الرواية".
وفي "حفلة التفاهة" و"الستارة" تتوارد التأملات في الزمن وعمل الذاكرة والنسيان مع التقدّم في السن. وقد يكون كونديرا من أشد الروائيين العالميين "التزاما" بطرح الأسئلة الكبرى للوجود البشري، طرحا روائيا – فلسفيا، في النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا ما أوصله، أخيرا، إلى النظر في الوجود انطلاقا من عمره وتقدّمه في السن، جاعلا من "حفلة التفاهة" مدارا لتأملاته في ضمور حياة المسنّين، وجودهم وذاكرتهم.
في "الستارة" كتب أن "النشاط المستمر للنسيان يعطي أفعالنا كلها طابعا شبحيا، لا واقعيا، ضبابيا". ثم تساءل: "ما الذي تغدّيناه في الأمس؟ ما الذي قصَّه عليَّ صديقي، وحتى ما الذي فكرت فيه قبل ثلاث ثوان؟" الجواب: "كل ذلك نُسيَ. وما هو أسوأ ألف مرة، أنه لا يستحق شيئا آخر". أما "الرواية بوصفها يوتوبيا عالم لا يعرف النسيان"، فليست بدورها سوى "قصر محصّن" تحصينا سيئا في "مواجهة النسيان". والدليل أنني – يكتب كونديرا نفسه – حينما "أقلب الصفحة، أنسى ما قرأته، ولا أحتفظ إلا بضرب من التلخيص (…) وذات يوم، بعد سنوات، تستحوذ عليّ رغبة في أن أتكلم عن رواية لصديق. آنئذ سنتأكد أن ذاكرتينا لم تحتفظ منها إلا ببعض المقتطفات، وقد بنت لكلّ منا كتابين مختلفين تماما". هكذا تجفّ الحياة في الجسد وتجف الذاكرة ويتقلّص الزمن، كلما تقدّم تكاثرت واتسعت السنوات التي نعيشها.
في "حفلة التفاهة" يقف ألان أمام المتحف المجاور لحديقة لوكسمبورغ الباريسية، راغبا في زيارة معرض للرسام الراحل مارك شاغال. لكنه كان يعلم أن قدرته لن تسعفه على الوقوف في الصف الطويل الذي يتقدّم بطيئا نحو صندوق دفع رسم الدخول الى المعرض. لذا "أخذ يراقب الناس ووجوههم المشلولة من الضجر"، وفضّل الدخول إلى الحديقة المجاورة، حيث "الجنس البشري أقل عددا وأكثر حرية". في الوقت نفسه كان دارديلو، وهو شخصية أخرى في الرواية، يمرّ في الحديقة نفسها، مرددا "في سرّه بصوت راعش أنه سيحتفل بعد 3 أسابيع، وفي آن واحد، بذكرى ميلاده البعيد وباحتمال موته الذي أصبح وشيكا". ذلك لأنه ينتظر "نتائج فحوص" طبية يُشتبه في كشفها عن إصابته بالسرطان. لذا يسمّي الذكرى المنتظرة "عيدا مزدوجا"، وفقا للمذهب الكونديري التهكّمي العدمي.
لا تتكشّف فحوص دارديلو عن سرطان. وقبل إحيائه حفلة في ذكرى ميلاده، يلتقي أصدقاءه ويستغرقون في ثرثرة عن الزمن والسن والعمر. أحدهم يقول: "يلتقي الناس في الحياة، يثرثرون ويتناقشون ويتشاجرون، غير مدركين أنهم يتخاطبون من بعيد"، من مسافة فروقات السن في ما بينهم: "كل واحد يتكلّم من مرصد ينتصب في موقع مختلف من الزمن". لذا يتكلّم كل منهم على ليلاه… "ثم يموتون"، يتابع صديق آخر، قائلا. فيضيف ثالث: "يظل الميتون بضع سنوات (حاضرين كذكرى) مع الذين عرفوهم". ثم "يصبح الأموات أمواتا قدامى، ولا يعود أحد يتذكّرهم ويختفون في العدم". أما المشهورون، و"هم قلّة نادرة" فتمكث أسماؤهم في الذاكرة"، لكنهم يتحوّلون "دمى" بعد تجريدهم من أية شهادة صادقة ومن أية ذكرى واقعية". هؤلاء ليسوا سوى "دمى في مسرح العرائس".
إذا كان صاحب "المزحة" قد بنى عالمه الروائي على التهكّم والعبث والدعابة والمرح والسخرية المرّة، فإنه في ختام روايته هذه يضيف التفاهة إلى ذلك العالم بوصفها "مفتاح الحكمة" و"مفتاح روح الدعابة".
الحياة في غياب إرادتين
أخيرا، ها هو ألان (وكونديرا من ورائه) - الذي لم يتمكن طوال حياته من قطع حبل السرة الذي يربطه بأمّه التي تكره الإنجاب وأُرغمت عليه - يستمع إلى أمه تناجيه قائلة: "دوما بدا لي أنه من المرعب إرسال شخص إلى العالم من دون أن يطلب ذلك". لكن الأشد رعبا هو أن "لا أحد موجودٌ بإرادته". هذه هي "الحقيقة الجوهرية بين جميع الحقائق"، لكن الجميع "كفّوا عن رؤيتها وسماعها"، لأن لا جدوى من التفكير فيها.
أما ما "يهذون" به عن "حقوق الإنسان" فليس سوى "طرفة"، بل ترهات و"تفاهات"، ما دام الوجود نفسه "لم يتأسّس على أي حق" أوليّ أصيل: إرادة الإنسان أن يولد. مَن هذه حاله كيف يمكنه اختيار أي شيء جوهري وأصيل في حياته! وها هم "فرسان حقوق الإنسان" لا يسمحون لأحد بأن "ينهي حياته بإرادته". وما يفعله البشر في الفسحة الزمنية الفاصلة بين غياب هاتين الإرادتين – إرادة الولادة وإرادة الموت – ليس سوى "قتل الوقت الذي لا يعلمون ماذا يفعلون به" (كونديرا)، والذي "لا ينقضي" (حسب الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار). ويقترح الشاعر عباس بيضون ابتلاعه "بجرعات كبيرة" حتى "خلاء هذا القدح".
أما إميل سيوران فوضع كتابا خاصا في هجاء الولادة سمّاه "مثالب الولادة". وما يقترح كونديرا على الإنسان أن يفعله في الفسحة الزمنية بين امتناع الإرادتين، هو "حب التفاهة" باعتبارها "جوهر الوجود" والحاضرة "على الدوام وفي كل مكان: في الفظائع، والمعارك الدامية، وفي اسوأ المصائب" الفردية.
وإذا كان صاحب "المزحة" قد بنى عالمه الروائي على التهكّم والعبث والدعابة والمرح والسخرية المرّة، فإنه في ختام روايته هذه يضيف التفاهة إلى ذلك العالم بوصفها "مفتاح الحكمة" و"مفتاح روح الدعابة".