في هذا النص يسرد الروائي السوري خالد خليفة مشاهد وانطباعات من الأشهر الستة التي أمضاها في زيوريخ السويسرية ضمن برنامج للكتابة الإبداعية. فكيف استقبل زيوريخ واستقبلته وماذا عن مشاعره تجاه دمشق؟
بعد أقل من أسبوع سأترك زيوريخ عائدا إلى دمشق، سؤال يراودني منذ أيام حين فتحت حقيبتي وبدأت أرتبها من جديد، ماذا يبقى من المدن حين نغادرها. كيف تتغلغل الأمكنة في ذاكرتنا وأحلام يقظتنا. لا بد من اختبار الهجر أولا والحديث بعد ذلك عما سيبقى من هذه المدينة التي وصلتها في ليلة باردة بعد رأس السنة بأيام.كانت المدينة صامتة، ونهر ليمات مظلما. بقايا ثلج خفيف على ضفافه. كنت متحمسا للعيش في المدينة التي لم يخطر لي في حياتي بأني سأكون من سكانها أكثر من ثلاثة أيام. تحمل المدينة معاني متناقضة بالنسبة إلي، لكنها قدمت لي إشارات كثيرة عكس اعتقادي في الزيارة الأولى عام 2020 حين وصلناها أنا والصديقة المترجمة لاريسا بندر بعد الظهر لقراءة في رواية "الموت عمل شاق" ضمن جولة في العالم الألماني، يومها في الندوة وقفت امرأة تسعينية، طلبت الإذن بالحديث لتقول رأيها وتغادر كي تلحق بالقطار الذي يوصلها إلى قريتها، قالت إنها عاشت الحرب العالمية الثانية وانتظرت أن يكتب أحد عنها، لكن لم يحدث، وأتيت أنت بعد كل هذه السنوات وكتبت عني، مشيرة إليَّ، ثم أضافت وقالت "أنا بلبل" (بطل الموت عمل شاق) ثم غادرت، تاركة في نفسي أثرا لا يمحى.
في الزيارة الثانية عام 2022 أيضا في جولة الترويج لروايتي "لم يصلّ عليهم أحد" في ألمانيا، كانت زيوريخ محطتنا الثالثة وقبل الأخيرة، بعد الندوة والحوار والقراءة وأثناء توقيع النسخ للجمهور، اقتربت امرأة خمسينية وأفهمتني بأنها تملك كتبي في المنزل، وتريد توقيعي على ورقة بيضاء، وقّعت لها، فتحت يدها، كانت تحمل عشرة فرنكات سويسرية، قدمتها لي. خجلت وأنا أشرح لها أنني لا أحتاج مالا، والمضيف والناشر يدفعان لنا أموالا كافية لقاء عملنا، لكنها صممت بعد رفضي للمرة العاشرة، رأيت طرف دمعة في عينها وقالت يجب أن تأخذها كي يصيبني حظ جيد.
شجعني شخص ينتظر دوره للتوقيع.
أخذتها وأهديتها لرفاقي في دمشق ورفعنا بها كأس القارئة اللطيفة. لا يمكن لهذه الإشارات أن تمرّ دون تأمل، أنا رجل يؤمن بالرموز والإشارات، وعشت طفولتي في عالم تحكمه الخرافات والرموز والدلالات التي كانت تخص أمي، وبعد وفاتها تحوّلت كل رموزها إلى عالم من الأمل، ملخصه لا يمكن للطيبين إلا أن يكونوا جزءا من خير البشرية.
كل شيء هادئ هنا، مدينة تعيش إيقاعها الذي تفرضه عليك، لطالما فكرت بأن المدن التي تجاور الأنهار تفهم الزمن بطريقتها الخاصة. حدث هذا لي من قبل، في القاهرة وبوسطن ودير الزور وبغداد ومدن أخرى، الزمن يختلف عن زمن المدن الأخرى. الأبدية جزء أساسي من هذا الفهم، تشعر به في كل مكان في زيوريخ.