باستثناء القرار الذي أصدره الرئيس اليمني رشاد العليمي في منتصف مايو/أيار الماضي واعتمد فيه تسويات وظيفية لأكثر من 46 ألف شخص أبعدوا من الخدمة العسكرية والمدنية عقب حرب 1994، فإن مشاكل مخلفات تلك الحرب بقيت قائمة لما يقرب من ثلاثين سنة. يكشف هذا العدد الكبير من الموظفين الجنوبيين الذين سُرّحوا من وظائفهم، جانبا من المشكلة التي أدّت إلى زيادة النزعة الانفصالية خلال العقود الماضية.
كتبتُ مقالا حينها [8/6/1994] بعنوان "إيقاف الحرب يعني الانتصار"، قلت فيه إن الحرب مثّلت "الطعنة الأولى في خاصرة الوحدة". لم يكن نشر المقال في صحيفة "الوحدة" الحكومية سهلا بعدما أُقفلت معظم الصحف الحزبية والمستقلة وصار صوت التحريض والتجييش ضد الجنوب هو السائد في شمال اليمن، وربّما كان ذلك المقال خاتمة لربيع الحرّيات الصحافية الذي بدأ مع إعلان الوحدة اليمنية في 22 مايو/أيار 1990.
بعد سيطرة القوّات الشمالية (الوحدوية) على الجنوب في 7 يوليو/تموز 1994، ظهرت النزعة الانفصالية بين مواطني هذه المناطق خاصة حين كانوا يرون المتنفذين ينهبون ثروات ما تحت الأرض وما فوقها، فيما هم يعيشون في ظروف سيئة بعد إقصاء عشرات الآلاف من أعمالهم الحكومية. وقد احتاجوا إلى الكثير من الوقت حتى استعادوا أنفاسهم وبدأوا بالتظاهرات والانتفاضات التي قوبلت بمواجهات أمنية واعتقالات ذهب جراءها الكثير من الضحايا، لتتشكّل حركات مدنية منظّمة تطالب بـ"الاستقلال" أو بـ"استعادة الدولة" الجنوبية، عُرفت حينها بـ"الحراك الجنوبي" [7 يوليو/تموز 2007] وانطوى معظمها في ما بعد تحت اسم المجلس الانتقالي.
طُرح الكثير من الحلول للقضية الجنوبية، منذ تنحية الرئيس علي عبدالله صالح عن الحكم في 27 فبراير/شباط 2012، منها نقاط تسع حدّدتها لجنة خاصة، لتتحوّل بعدها إلى عشرين نقطة، ثم جاءت نصوص مؤتمر الحوار الوطني ومشروع الدستور الجديد بقرارات وتوصيات أعاق المضيَّ في تنفيذها انقلابُ 21 سبتمبر/أيلول 2014 كما أعاق مشروع الدولة الاتحادية كاملا.
أكّدت تلك النقاط والتوصيات ضرورة اعتذار أطراف الحرب ضد الجنوب، خصوصا ما جاء في فتاوى التكفير، وهذا ما لم يفعله قادة حزب الرئيس صالح (المؤتمر الشعبي العام) والتجمّع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون)، الذي أصدر شيوخه، وأبرزهم الشيخ عبد المجيد الزنداني والشيخ عبد الوهاب الديلمي المتوفى قبل سنتين، فتاوى حرب تكفيرية ضدّ الجنوبيين، إلى جانب قرارات إجرائية من شأنها تضييق الهوّة المتسعة بين الجنوبيين والشماليين التي بدت واضحة إثر تقوية نفوذ المجلس الانتقالي في عدن وتهجيره لعدد من العمال الشماليين البسطاء في المدينة.
ظهرت النزعة الانفصالية بين مواطني هذه المناطق خاصة حين كانوا يرون المتنفذين ينهبون ثروات ما تحت الأرض وما فوقها فيما هم يعيشون في ظروف سيئة
وعلى الرغم من المآخذ التي بدت جراء تصرّف بعض أعضاء المجلس الانتقالي تجاه الشماليين وعدم تمييزهم بين النشاط السياسي وحق الناس في العيش في دولة ما زالوا جزءا من مواطنيها، فإن الاتهامية المفرطة بالتخوين لكلّ دعاة الانفصال، أو استعادة الدولة، تراجعت في الآونة الأخيرة، لذا بدأ المجلس الانتقالي في هيكلة مؤسساته الإدارية وتنظيم أولوياته في النشاط السياسي والاجتماعي. ولعل زيارة رئيس المجلس عيدروس الزبيدي لبريطانيا هدفت، إلى جانب الترويج لتصورات الجنوبيين عن حلّ المشكلة في اليمن، إلى الافادة من نشاط الحركات الانفصالية في المملكة المتحدة (ايرلندا الشمالية، اسكتلندا، ويلز).
وأظن أن من المهم دراسة التوجهات الانفصالية، سواء في اسكتلندا في بريطانيا أو في كاتالونيا في إسبانيا أو كيبيك في كندا، ومعرفة تحولاتها التاريخية للافادة من نهجها السلمي الطويل في المطالبة بالاستقلال، وتخلي بعضها عن السلاح كما حدث مع منظمة "إيتا" في إقليم الباسك الإسباني. فتاريخ هذه الحركات يقول إنّ هناك انتفاضات تخللتها حوارات واستفتاءات ومراجعات لحساب تكامل المصلحة الاقتصادية والاجتماعية. وسنجد في التاريخ اليمني الكثير من المحطات التي تحتاج إلى القراءة والافادة منها. فمثلا، في الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي كانت هناك نزعة محلية تطالب بإخراج الشماليين من عدن لكنها سرعان ما تراجعت بعدما اكتشف أصحاب تلك النزعة أنهم سيخسرون الكثير من العوائد الاقتصادية والعمّال الذين هم أيضا همزة وصل لتصدير البضائع إلى المناطق الشمالية، وقد يؤدي طردهم إلى إنشاء ميناء منافس على السواحل الغربية.
ما يقال حاليا عن وجود اختلافات جوهرية بين الشمال والجنوب يتعارض مع الكثير من الحقائق التاريخية، وأتذكّر بيانا أو مقالا كتبه عمر الجاوي وعبد الرحمن عبدالله إبراهيم عشية إعلان الوحدة اليمنية بيّنا فيه القواسم المشتركة بين الجنوب والشمال، ولا سيما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. وسنجد اليوم الكثيرين من القادة الجدد يتشابهون، سواء في عدن أو تعز أو حضرموت وصنعاء ومارب وأبين، في انطلاقهم من رؤى سلفية دينية لجوانب الحياة المعاصرة.
إذا كان الوحدويون يتوهّمون أن الدولة المركزية المهيمنة هي الكفيلة بقمع النزعات الانفصالية فإن الانفصاليين سيمضون في الوهم نفسه إذا اعتقدوا أن في استطاعتهم تحقيق هدفهم في الاستقلال عبر الحرب أو القوّة
وإذا كان الوحدويون يتوهّمون أن الدولة المركزية المهيمنة هي الكفيلة بقمع النزعات الانفصالية، فإن الانفصاليين سيمضون في الوهم نفسه إذا اعتقدوا أن في استطاعتهم تحقيق هدفهم في الاستقلال عبر الحرب أو القوّة. إذ إن العوامل الديموغرافية لا تنبئ بأي تحقق ممكن في ظل وجود رغبة شمالية في الحفاظ على الوحدة بأي ثمن؛ فالحوثيون ومعهم تجمّع الإصلاح (الإخوان المسلمون) لم يتراجعوا قط عن اعتبار الوحدة مقدّسة، ويردّد طارق صالح قائد المقاومة الوطنية في الساحل الغربي أن هدفه الوحيد الوصول إلى صنعاء، حيث يسيطر الحوثيون، ولا يخفي مساعدوه الإعلاميون دعمهم للتوجهات الانفصالية في الجنوب، إلاّ أن هذا لا يعدو كونه ممارسة تكتيكية، إذ من غير المستبعد أن يعيد ابن شقيق الرئيس السابق رفع شعار عمّه صالح الشهير الذي يقتدي به "الوحدة أو الموت".
لهذا فإن النهج السلمي الديموقراطي للجنوبيين، عبر الدولة الاتحادية، يبدو لي أنّه سيكون الطريق الاستراتيجي الأمثل للسعي نحو إجراءات تتضمن حق الإدارة الذاتية، وربّما طرح الاستفتاء حول "فك الارتباط" مستقبلا، خاصة أن مشروع الدولة الفيديرالية يضمن تشكيل حكومة وبرلمان محليين.
إلى ذلك الحين، من المهم تقديم نموذج متميز في الحكم المحلي بعيدا من الشمولية المهيمنة التي عُرف بها الجنوب والشمال معا، في ظل سلطات غير ديموقراطية. وهذا يعني اتخاذ خطوات واضحة نحو تعزيز الحكم الفيديرالي كدمج الجيش وتفعيل القدرات الاقتصادية المحلّية مثل تشغيل ميناء عدن والمضي في الاستثمار الصناعي والتجاري، إذ ان عدن كانت حاضرة شبه الجزيرة العربية ووجهة اليمنيين الرئيسة لعقود من الزمن.