أثار تحرك النظام السوري الأخير للاستيلاء على ممتلكات 35 فردا بعد اتهامهم بالتهريب، الانتباهَ والعجب. فإلى جانب العدد غير المعتاد من الأشخاص المستهدفين في وقت واحد، فإن الملفات الشخصية وانتماءات هؤلاء الأفراد تضيف مزيدا من الغموض إلى الوضع برمته. فبالإضافة إلى السياسيين، تتضمن هذه القائمة عددا من قادة الميليشيات الذين يتمتعون جميعا بصلات وثيقة مع النظام وحليفته إيران.
في ظاهر الأمر، يبدو هذا القرار وكأنه موقف حازم ضد الأنشطة المالية غير المشروعة، على أننا، إذا تعمقنا أكثر، فسنرى بوضوح أنّ ثمة أجندة أساسية تحرك اللعبة. وبالإضافة إلى تأمين المكاسب السياسية على المستوى الإقليمي، يبدو أن هذه الخطوة جزء من استراتيجية أكبر تهدف إلى انتزاع الأموال من المقربين الذين تجاهلوا التزاماتهم المالية تجاه النظام.
لقد تصدرت المصادرة عناوين الصحف عندما ظهرت وثيقة مسربة في وقت سابق من هذا الشهر. ومن بين الأسماء التي وردت في الوثيقة فراس الجهم المعروف أيضا باسم "فراس العراقي"، وهو شخصية بارزة وأحد قادة ميليشيا "قوات الدفاع الوطني". ومن بين الأشخاص المستهدفين بالقرار حسن الغضبان القيادي البارز في ميليشيا "الفرقة الرابعة" التي يتزعمها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري.
ويلقي القرار كذلك بشباكه على مدلول (مدلل) عمر العزيز، وهو عضو في مجلس الشعب. كما كشفت الوثيقة أن الأفراد المدرجة أسماؤهم استُهدفوا بسبب تورطهم في تهريب بضائع تقدر قيمتها بنحو 16.6 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 1.8 مليون دولار تقريبا. وتصل الغرامات المحتملة المرتبطة بهذا النشاط غير المشروع إلى مبلغٍ مذهلٍ يُقدّر بــ 99.6 مليار ليرة سورية، وهو الأمر الذي يؤكد خطورة الجريمة.
راكم الكثير من نخب رجال الأعمال في سوريا ثرواتهم، ولا سيما أولئك الذين استمروا في الأعمال أثناء الصراع، وذلك على نحو مباشر أو غير مباشر، ومن خلال صلاتهم بالنظام
يُشير توقيت القرار بقوة إلى نية النظام تعزيزَ موقفه السياسي في المنطقة، وتحديدا فيما يتعلق بالعراق. فجميع الأفراد الـ35 المستهدفين بالقرار ينحدرون من محافظة دير الزور الواقعة على الحدود العراقية، ومن المعروف أنها مركزٌ بارز لأنشطة التهريب، ولا سيما تهريب المخدرات. كما أن القرار قد اتُخذ قبل فترة وجيزة من زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى العراق، بهدف تنسيق الجهود لتأمين الحدود ومكافحة التهريب، وخاصة تهريب المخدرات.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن يكونَ القرار قد استُخدم، من بين تدابير أخرى، لإثبات الإجراءات الاستباقية للنظام في معالجة هذه القضايا. إن القيام بذلك ليس مهما فقط في تعزيز موقف النظام مع العراق، ولكنه مهم أيضا لتلبية المتطلبات الإقليمية لإعادة دمج سوريا في المجتمع العربي. فقد وافقت سوريا في مايو/أيار على التعاون مع العراق في مكافحة تهريب المخدرات عبر حدودها، بعد اجتماع لوزراء الخارجية العرب كانَ قد عُقد في عمان.
ومع ذلك، قد لا يكون تحقيق مكاسب سياسية الدافعَ الوحيد وراء هذا القرار. فمنذ عام 2019، ابتز النظام مراراً كثيرا من رجال الأعمال الموالين والمستفيدين من الحرب من أجل الحفاظ على اقتصاده. وبينما قدّم داعما الأسد الرئيسان، إيران وروسيا، مساعدةً كبيرة لمساعدة النظام على الانتصار في الحرب، فإنهما لم يتمكنا في المقابل من معالجة التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأسد على نحو ملائم. ونتيجة لذلك، لجأ النظام إلى تكتيكات غير تقليدية قصيرة المدى لإدارة أزمته الاقتصادية.
لقد راكَمَ الكثير من نخب رجال الأعمال في سوريا ثرواتهم، ولا سيما أولئك الذين استمروا في الأعمال أثناء الصراع، وذلك على نحو مباشر أو غير مباشر، ومن خلال صلاتهم بالنظام. لذلك، يشعر الأسد، والذي تنفد خياراته، أنه يحق له أن يطلب من هؤلاء رد الجميل؛ فالقادرون على مواصلة أنشطتهم التجارية كالمعتاد هم أولئك الذين يمتثلون ويدفعون مستحقاتهم.
ومن ناحية أخرى، يواجه أولئك الذين يرفضون أو لا يمتثلون للمطالب تداعيات صعبة لأفعالهم، حيث يتعرضون لتهديدات لفظيةٍ أو يواجهون إجراءات عقابية مثل تجميد الأصول بتهمة التهرب الضريبي، أو الفساد.
يجب على صناع السياسة المنخرطين في مفاوضات مع الأسد، ومعهم المحللون المتميزون، تحصين أنفسهم ضد هذه المناورات الماكرة، وسبر الأمور التي تجري تحت السطح حتى يتم الكشف عن الدوافع الحقيقية وراء تصرفات النظام
ولعلّ خير مثال على الشخصيات البارزة التي شهدت مثل هذا الابتزاز رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، وكذلك محمد حمشو، ووسيم قطان. ومن المهم ملاحظة أن أساليب الابتزاز هذه تتجاوز الأفراد البارزين وتستهدف أيضاً أصحاب الأعمال والمستفيدين من الحرب على مستويات مختلفة، سواء كانت متوسطة أم منخفضة.
يتجلى عدم اهتمام النظام الحقيقي في فرض سيادة القانون أكثر مما يتجلى في نهجه المتمثل في مراقبة الأفراد المستهدفين والسماح لهم بمواصلة العمل ما داموا خاضعين له. وهذه الحادثة ليست استثناء. ووفقا لمصادر محلية، فإن الأفرادَ المدرجين في الوثيقة المسربة متورطون بشكل علني في تهريب البضائع والنفط والمخدرات بين سوريا والعراق منذ سنوات.
وبدلا من متابعة القضايا القانونية أو السجن، يُطلب منهم فقط دفع إتاوات. ولا بأس من أن نشير أيضا إلى عدم تجميد الأصول العائدة لأفراد عائلات هؤلاء الأفراد، على الرغم من طبيعة الانتهاكات، واستخدامهم الواسع لأسماء أفراد في عائلاتهم لحماية ممتلكاتهم. ويشير هذا في الواقع إلى أن الضبط لم يكن سوى رسالة أكثر من كونه جهدا حقيقيا لإنهاء أنشطتهم غير المشروعة.
وتشير الديناميات المتطورة في سوريا والمنطقة الأوسع بقوة إلى أن النظام سوف يستخدم بشكل متزايد هذه التكتيكات متعددة الأوجه، بهدف ضرب عدة طيور بحجر واحد. وبالتالي، يجب على صناع السياسة المنخرطين في مفاوضات مع الأسد، ومعهم المحللون المتميزون، تحصين أنفسهم ضد هذه المناورات الماكرة، وسبر الأمور التي تجري تحت السطح حتى يتم الكشف عن الدوافع الحقيقية وراء تصرفات النظام.