قد لا يصحّ القول إنّ الجاحظ كان فيلسوفا إذا كنا نقصد بالفلسفة ذلك النظام الفكري المتماسك، المحكم التصميم والبناء، لأن أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لم يكن يُنسّق أفكاره بغرض التقدّم ببناء شامل، كفلسفة أفلاطون أو أرسطو. ولا يمكن لنا أن نعدّه فيلسوفا، إذا كانت الفلسفة هي الدراسة التي تعيد كل المعارف الإنسانية إلى بعض الأصول الأساسية بغرض الظفر بنظرة شاملة إلى العالم الذي نعيش فيه، فالجاحظ لم يكن يملك رؤية أصيلة لتطور المجتمع، ولم يكن يعرف الكثير في ما يتعلق بفلسفة العلوم وفلسفة التاريخ.
لكن إذا عدنا إلى تقسيم أرسطو الفلسفة قسمين: الفلسفة الإلهية والفلسفة الطبيعية، لوجدنا عند الجاحظ الكثير من هذا التفلسف، فقد ناقش مواضيع ميتافيزيقية وطبيعية، وناقش قضية وجود الله والردّ على الملحدين، وانشغل بدراسة الطبيعة وما فيها من إنسان وحيوان وجماد. وكانت طريقته في التفلسف تنطلق من دراسة الشيء الملموس المحسوس، ثم ينتقل منه إلى المجردات والعقليات. وكان منهجه عقليا، بمعنى أنه يُحكّم العقل في كل ما يبحث به، ويخضع الأمور لمحك النقد، ويجعل الشك طريقا إلى اليقين. وكان يفسر القرآن بالعقل ويدحض الإسرائيليات والمرويات التي تتصادم مع العقل.
ولا غرابة في هذا فقد كان رأسا من رؤوس المعتزلة، تلك الفرقة التي انقرضت منذ زمن بعيد، وإن كان أثرها باقيا وواضحا في المفكرين في زماننا، فرقة العقل. سبب انقراض المعتزلة كفرقة، بمعنى اختفاء من ينتسبون إليها، ترجع بداياته إلى فتنة القول بخلق القرآن ذاتها. وكم شوّه خصوم المعتزلة مقولتهم، فالمعتزلة دعاة تنزيه، أي تعظيم لله، بحيث لا يتصورونه شبيها بمخلوق (ليس كمثله شيء) وعندما أتوا إلى صفة الكلام، استشنعوا جدا أن يوصف الله بأنه يتكلم ككلام البشر، فيلزم أن يكون له فم وأسنان وصوت، ولذلك قالوا إن الصوت الذي سمعه موسى في طور سينا، هو صوت خلقه الله في الشجرة. بعد هذا صار خصوم المعتزلة يختصرون عبارة المعتزلة "القرآن كلام الله مخلوق"، فأصبحت "القرآن مخلوق" حتى تصوّر البعض أن المعتزلة ينكرون أن يكون القرآن كلام الله.
بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل
بسبب الرغبة في التنزيه والتصور الصحيح، اضطهد المعتزلة الناسَ بقضية خلق القرآن، وكانوا يرون أن دين المرويات التي تكاثرت في الكوفة قد أصبح خطرا على الإسلام نفسه. وممن اضطُهد أحمد بن حنبل، ويروي أهل الحديث إن ابن أبي دؤاد المعتزلي قال في مجلس محاكمة ابن حَنْبَل أمام الخليفة المعتصم: "اقتله يا أمير المؤمنين فإنه كافر"، وأنه جُلد وأثخن جسده بالجراح وبقيت آثارها حتى موته. هذه القصة بهذا السياق أنكرها الجاحظ من أساسها وروى قصة أخرى تخالف كل ما في مدونات الحنابلة والسلفيين مخالفة جذرية. لا شك أن الجاحظ عقل كبير ومثقف رفيع وأديب ألمعي له فضل وأيّ فضل على اللغة العربية وعالم الفكر كله، ولا يمكن لمنصف أن يتجاهل شهادته، فقد عاصر فتنة خلق القرآن وكان من المقربين ذوي الحظوة عند العباسيين. ولد الجاحظ في سنة 159 هـ ومات سنة 255 هـ، وولد أحمد بن حنبل سنة 164 هـ ومات سنة 241 هـ وهذا معناه أن الجاحظ ولد قبل أحمد ومات بعده، وهو بذلك خير من يقدم لنا الرأي الآخر في هذه القضية، خصوصا أن الجاحظ لم يكن من المعتزلة المتعصبين للمذهب بل كان ينصح طلابه بضرب الأقوال بعضها ببعض، لكي يكشف ذلك عن جبين الحقيقة.
حاصل ما قرره الجاحظ في رسالته "خلق القرآن" أن أحمد بن حنبل الذي لم يذكر اسمه "لم ير سيفا مشهورا، ولا ضُرب ضربا كثيرا، ولا ضُرب إلا ثلاثين سوطا مقطوعة الثّمار، مشعَّثة الأطراف، حتى أفصحَ بالإقرار مرارا". أي أن أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ.
لا يمكن لباحث موضوعي أن يرضى بقدح السلفيين في الجاحظ بناء على رغبتهم في إسقاط شهادته كما فعل شمس الدين الذهبي حين ترجم للجاحظ في كتاب "سير أعلام النبلاء"، فقال: "كان ماجنا قليل الدين، له نوادر". ومما لا شك فيه أن كتاب الذهبي "سير أعلام النبلاء" كتاب تربوي مهم، لكن كتب السير بدورها لا تخلو من التعصب، فالذهبي على الرغم من أنه من أنزههم، وأحفظهم للسانه، إلا أن التعصب لأهل الحديث ظاهر في كتابه. الشخصيات الوارد ذكرها في "سير أعلام النبلاء"، إما أن تكون للزعماء السياسيين أو لرجال الدين أو للأدباء، وهم المثقفون في تلك الحقبة. وأقل الناس حظا في كتاب الذهبي وأمثاله هم الأدباء، إذ لا يخصهم إلا بصفحة أو نصف صفحة، والزعماء السياسيون والأبطال المغاوير أحسن منهم حظا، لكنهم لا يصلون عنده لمستوى رواة الحديث والفقهاء وقيمتهم. من ذلك أننا نجد الذهبي يخص أحمد بن حنبل بمائة وإحدى وثمانين صفحة (في الطبعة الحديثة)، ويخص الجاحظ بخمس صفحات فقط، ويخص صلاح الدين الأيوبي وكل معاركه العسكرية والسياسية وحروبه التي خلدها التاريخ باثنتي عشرة صفحة!
أحمد بن حنبل، بحسب الجاحظ، أقرّ بخلق القرآن في مجلس الخليفة مرارا ولم يصمد كما اشتهر عنه. وهذا رأي صادم يختلف عن المشهور عند أهل الحديث وعامة المثقفين من المهتمين بالتاريخ
وصف الذهبيُ للجاحظَ بأنه "ماجن قليل الدين" يحتاج إلى وقفة، لأنك حين ترجع لترجمة الذهبي في الكتاب نفسه لأبي نواس فستجد أن أشدّ ما قاله الذهبي فيه هو: "ولأبي نواس أخبار وأشعار رائقة في الغزل والخمور، وحظوة في أيام الرشيد والمأمون. مات سنة خمس أو ست وتسعين ومائة. وقيل مات سنة ثمان وتسعين عفا الله عنه". تأمل هذا الزيف! "الجاحظ ماجن قليل الدين" وأشنع ما في أبي نواس هو "الأشعار الرائقة في الغزل والخمور، عفا الله عنه". في طبيعة الحال، وصف الجاحظ بالمجون وقلة الدين له علاقة برسالته عن "خلق القرآن" ورسالة له أخرى أطلق فيها على أهل الحديث والمرويات لقب "النابتة"، وفي غيرها وصفهم بأنهم "حشوية". ليس إلا ذاك. ولأبي نواس فضيلة ودَين على أهل الحديث، فهو الشاعر الذي هجا خصمهم إبراهيم بن سيّار النظّام. النظام هو هرم المعتزلة الأكبر، بل هو من وجهة نظري أذكى وأعمق المتكلمين المسلمين قاطبة.
من هنا نعرف أن هذه الألقاب "حشوية" و"نابتة" ترجع إلى الجاحظ، وقد تكون معروفة قبله، فيكون بذلك ناقلا لا ساكّا. وفي كلا الحالتين، قد نرى أن ما نعيشه في ثقافتنا العربية ليس بصراع جديد، بل قديم، فهو صراع المثقفين من علماء اللغة وأهل المرويات وجماعة المحتكرين للحقيقة، معركة لا تزال متقدة منذ أيام الجاحظ، بل قبله، مع أن كل هذا الذي سردناه لا يعني أبدا ترجيح رواية الجاحظ، بل يكفي أن نصل إلى شيء من النسبية هنا، نسبية الشك.