اسطنبول- في بداية شهر فبراير/شباط من العام الماضي- قبل أسبوع من بدء غزو أوكرانيا- امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور المركبات المدرعة الروسية محفور عليها حرف "Z" ورموز أخرى. ورغم أن اللافتات كان لها غرض وظيفي بحت (علامات لتجنب "النيران الصديقة")، فقد أصبح يُنظر إليها على أنها رموز رسمية للغزو، حتى إنها حُظِرت في بعض البلدان. ومن المفارقات الآن أن نرى الجيش الأوكراني، في لقطات من شبكات التواصل الاجتماعي، يضع علامات مماثلة على مركباته المدرعة بينما يواصل هجومه المضاد الذي طال انتظاره.
وفي ظل هذه الظروف، سيتعين على الكرملين أن يولي اهتماما تاما بالجبهة الأوكرانية، خاصة إذا أعلنت كييف ليس فقط عن عزمها إخراج القوات الروسية من مناطق دونباس، بل والسعي أيضا لاستعادة شبه جزيرة القرم.
وبالإضافة إلى ذلك، احتدم النزاع بين يفغيني بريغوجين، مالك شركة فاغنر العسكرية الخاصة، والمؤسسة العسكرية الروسية الرسمية، مجددا على نحو عنيف. فقد أهان بريغوجين شخصيا كلا من وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف على اختلاقهما "مجاعة القذائف" كما زعم. وتباهى أيضا أنه بفضل مرتزقته فقط تأخر بدء الهجوم الأوكراني المضاد والواسع النطاق، حيث احتجزت القوات الأوكرانية في أرتيميفسك (باخموت) لأشهر وهي تقاتل قوات فاغنر العسكرية الخاصة.
ومع ذلك، تظل أوكرانيا مجرد واحد من الموضوعات التي تحتل وسائل الإعلام الروسية إلى جانب الوضع في سوريا.
تحول في التركيز
منذ بداية مارس/آذار، وطوال أبريل/نيسان، ومايو/أيار، أبدى الطيران الروسي نشاطا متزايدا في سوريا، كما ذكر مسؤولون أميركيون مرارا. فقد بدأت الطائرات والطائرات دون طيار الروسية في التحليق فوق أهداف عسكرية أميركية بكثافة، خلافا لاتفاقيات فض الاشتباك. وقد لا تكون هذه هي المرة الأولى، فربما جرت حوادث مماثلة من قبل، ولكن على نحو أقل. وحسب وثائق البنتاغون المسربة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فإن قوات الدفاع الجوي الروسية في القامشلي كادت أن تُسقط طائرة "MQ-9 Reaper UAV"، وهي من نوع الطائرات دون طيار نفسه التي اعترضتها مقاتلة روسية وأصابتها فوق المياه المحايدة للبحر الأسود في مارس/آذار 2023.
ووجهت موسكو اتهاماتها لواشنطن بأنها تحاول تصعيد التوتر ليس في منطقة البحر الأسود فحسب، بل في منطقة البحر الأبيض المتوسط أيضا، وادعت أن التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتهك بروتوكولات فض الاشتباك وبنود المذكرة الأميركية الروسية بشأن السلامة الجوية فوق سوريا 213 مرة في أبريل/نيسان وحده.
ومع ذلك، أظهرت وثائق البنتاغون المسربة نفسها أن المخابرات العسكرية الأوكرانية كانت تخطط لمهاجمة القوات الروسية في سوريا، وهو ما كان سيجبر موسكو على نقل بعض القوات العسكرية من أوكرانيا. وحسب المصدر نفسه، تخلت أوكرانيا في النهاية عن الفكرة لعدد من الأسباب الفنية والسياسية.
غير أن هناك شكوكا موضوعية في أن موسكو تبنت موقفا تفاعليا بحتا في سوريا، وثمة مبررات للاعتقاد بأنها قد تبادر إلى ممارسة الضغط على المنشآت الأميركية في المنطقة.
أولا، في وقت مبكر من عام 2021، حاول الكرملين إجبار الناتو على التفاوض على هيكل أمني أوروبي جديد، ليس فقط من خلال التهديد بعمل عسكري ضد أوكرانيا، وإنما أيضا بالعمل النشط في سوريا، مثل إجراء تدريبات واسعة النطاق أو نشر قاذفات استراتيجية ذات قدرة نووية لفترة قصيرة في قاعدة حميميم الجوية. ومن المؤكد أن روسيا نشرت مجددا قاذفات "TU-22M3" في قاعدتها السورية نهاية مارس/آذار 2023.
ثانيا، ليس من قبيل الصدفة أن تصاعد النشاط الروسي في سوريا قد تزامن مجددا مع زيادة الحوادث التي تشتبك فيها القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران والقوات الأميركية. وبينما أحجمت روسيا سابقا عن ربط نفسها بالهجمات الإيرانية وجمدت أنشطتها في شرق سوريا إلى حد كبير، فإنها مع بداية الحرب في أوكرانيا تعمّدت إظهار التنسيق مع إيران أو حتى الصين، غالبا دون موافقتهما، لإثبات صلابة وضع الكرملين وتوافر الموارد لخوض الحرب. غير أن الكرملين يعي أن التضامن مع إيران لا بد أن تكون له حدود واضحة، نظرا لمعارضة إسرائيل نشر طهران رادارات ومنصات للدفاع الجوي في سوريا.
ولهذه الأسباب مجتمعة، قد تنطوي تصرفات روسيا على تكتيك يهدف لتقليل الضغط عليها في أوكرانيا بالضغط على منافسيها في مناطق خارج أوكرانيا. والمخطط الذي كان من الممكن لكييف أن تجده مفيدا قد يكون أيضا جذابا لموسكو، التي لا تمتلك الكثير من الموارد لإنشاء أي خطوط حمراء في الظروف الحالية. مع ذلك، يحاول الكرملين جاهدا رسم خطوط حمراء تظهر لواشنطن أن عليها تقديم تنازلات في أوكرانيا وفي الأسلحة الاستراتيجية أيضا. على سبيل المثال، لم تخفِ موسكو رغبتها في إبرام معاهدة جديدة لمنع الحوادث في أعالي البحار وفي الجو شبيهة بالمعاهدة السوفياتية الأميركية لعام 1972، التي حدّدت، في حقبة الحرب الباردة من بين أمور أخرى، المسافة التي يسمح فيها للسفن والطائرات الحربية بأن تقترب من بعضها بعضا أثناء المناورات.