رَحَلَ المفكّر وعالم الاجتماع والروائي السوري المغترب حليم بركات عن 92 عاما في الولايات المتحدة على غرار عشرات الكتّاب والشعراء والفلاسفة العرب الذين هجروا (أو هُجّروا من) أوطانهم وماتوا في المنافي، تجمع بينهم أسئلة الهوية والانتماء والهروب من القمع، كإدوارد سعيد وهشام شرابي والبياتي والسيّاب وقبلهم الجواهري ومحمود درويش ومظفّر النَّواب.
حليم بركات غادر سوريا مع أهله إلى لبنان حيث نشأ وتعلّم في بيروت ونال شهادة البكالوريوس والماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الأميركية في بيروت، وغادر إلى الولايات المتحدة عام 1966 وحصل على دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة متشيغان، ثمَّ عاد إلى بيروت في السبعينات ولم تطُل إقامته ليعود إلى الولايات المتحدة. عرفتُ حليم بركات جيدا أثناء وجوده في لبنان والتقينا مرات في مقاهي الحمرا، وفي بعض المناسبات الثقافيّة أو السياسيّة.
تمتّع بركات بثقافة أيديولوجيّة وفكريّة واسعة ضمن مفاهيم يساريّة غير واضحة المعالم؛ وكان متميّزا في مناقشة القضايا الأدبيّة والفلسفيّة وحتى الفنيّة والسياسيّة، لا سيما القضيّة الفلسطينيّة التي التزمها التزاما حرّا وخارج مؤسساتها وجبهاتها. أتذكّر أنّه وضع دراسة ميدانيّة حول واقع الجامعة اللبنانيّة من خلال تحليل الاتجاهات التي سادت من يمينيّة ويساريّة وأيديولوجيّة، والإشكاليّة التي يمكن تحليلها ومواجهتها والمرتبطة بالمؤسسات الحزبيّة في لبنان. إلى هذه الانتباهات الجامعيّة والتربويّة والاجتماعية، لم تغب عن بال حليم بركات القضيّة الفلسطينيّة، لا في لبنان ولا في الولايات المتحدة؛ ليس "كمُواكب" فكري فحسب، بل كمنخرط وملتزم مسراها ومراحلها.
وإذا كان حليم بركات في خدمة هذه القضيّة من خلال مداخلاته ونشاطاته، فإنّه أحسّ بمدى معاناة الفلسطينيّين المشتّتين في الأرض بهويتهم المسلوبة، واغترابهم في البلدان التي نزحوا إليها. أحسّها فجيعة عميقة زادت وتيرة أحلامهم إلى العودة إلى وطنهم السليب. وهو بالذات أثناء اختباره الولايات المتحدة، عاش هذا الاغتراب بل والتناقض، لأنّه كان في بلد يدعم إسرائيل في كل أشكال احتلالها، وهو العربيّ النقيّ في عروبته.
كان حليم بركات متميّزا في مناقشة القضايا الأدبيّة والفلسفيّة وحتى الفنيّة والسياسيّة، لا سيما القضيّة الفلسطينيّة التي التزمها التزاما حرّا وخارج مؤسساتها وجبهاتها
حاول في أبحاثه العديدة تقديم رؤيا علميّة واجتماعيّة للمجتمع العربي بمنهج نقدي، ارتباطا بالتحوّلات الاجتماعيّة والجيوسياسيّة، ومن ضمن هذه الأبحاث كتابه "المجتمع العربي في القرن العشرين" متوغّلا في ظواهر الاغتراب وأزمة هذه المجتمعات، وخصوصا ضعف المجتمع المدني، وتعثّر الديموقراطيات ذات الأواصر الضعيفة في العنصر المدني، بدساتيرها، وقوانينها وسلوكها. كأنّما يوحي بقوّة ويشدّد أنّ الديموقراطيّة الهشّة هذه تفسّخت مع المجتمع من الداخل ودمّرت البقيا من التفكير المدني، وصولا إلى المكوّنات الثقافيّة والسياسيّة وكذلك تعدّديتها المأزومة. فالتعدديّة مرتبطة بالفكر لا بالهواجس الغيبيّة، وبالحرّية لا بنقائضها. وهو، في مجالات أخرى لا يفصل هذه الإشكاليّات عن روافدها، أي مسألة الهوية العربية، والاندماج الاجتماعي والسياسي، في ظلّ الأحاديّة، سواء الأيديولوجيّة التاريخيّة، أو المنطلقات العشيريّة والفلّاحيّة، وعلاقتها بالبنى الاجتماعيّة، الهادفة نظريّا أو ملامسة لتجاوز الأحاديّة بشكل نهائي. لم يتوقف حليم بركات عن هذه القضايا الملتبسة بل أصدر كتبا عدة عن "المجتمع المدني في القرن العشرين"، "الهوية وأزمة الحداثة"، "الوعي التقليدي" (2004) و"الاغتراب في الثقافة العربيّة" (2006). في كتابه عن الاغتراب يرى أنّ الكاتب العربي يعيش غربات عديدة داخل الوطن وخارجه: وهي تجربة عاشها بركات وتنقّل معها بين الأمكنة البعيدة ووطنه وعالمه الخاص. فغربة المثقف في وطنه يغذّيها غياب حرّية الاختبار، والنزاعات الغيبيّة، والأنظمة الملتبسة الأفكار والبنى.
وينتقل من هذا العالم إلى العلاقة العائليّة والاجتماعيّة وحتى الاقتصاديّة، بين الرجل والمرأة. وقد رأى فيها هرميّة متكاملة ليست أفقيّة، تتضمّن تفاوتا كبيرا في الأدوار والمسؤوليّات وخصوصا السلطة، مركّزا على أبعاد الذكوريّة الطاغية والعادات والتقاليد المدنيّة وغير المدنيّة. ويرى أنّ تحرير المرأة في العالم العربي لا يمكن أن يتم بطرق جانبيّة أو جزئيّة، بل بتحوّل المجتمع من مجتمع أحادي (يتحكّم به الرجل) إلى ما سمّاه الظواهر التعدّديّة المكتملة، متعمّقا في هذا الإطار في ظواهر الاغتراب وأزمة المجتمعات الديموقراطية، راصدا مآلاتها وقد تفسّخت وتفكّكت، ودمّرت المجتمع نفسه، المدني وغير المدني، بمكوّناته، حتى الثقافية. من هذه المنطلقات المرتبطة بعضها ببعض، يعمّق حليم بركات غوصه في الهويّة العربيّة ومسألة الاندماج الاجتماعي والسياسي، بين عناصر المجتمع العربي، كالبداوة والفلاحة والثقافة، فيتوقف عند الأحاديّة نفسها من خلال علاقتها بالبنية الاجتماعية. لكن خلف تلك الدراسات الاجتماعيّة والفكريّة ذات المنهجيّة الصارمة، والمصطلحات الدقيقة المتصلة بطبيعة الأبحاث، المنطقيّة، والفلسفيّة، ثقافة أخرى لا تنفصل عنها إلا باللغة؛ هي الثقافة الأدبيّة والفنيّة التي تشرّبها حليم بركات في بيروت أيّام عزّها، في الستّينات والسبعينات، حيث كانت، بفضل ما توفّر فيها من حرّية للتعبير وغير التعبير، ملاذا للكتّاب والشعراء (والسياسيّين) الذين هربوا من جور أنظمتهم وحكّامهم.
فبيروت كانت آنئذٍ منفتحة على مختلف ثقافات العالم، ودُور نشرها تجاوزت الثلاثة آلاف دار. في هذه البيئة، التي يعزّزها انفتاحه على العالم، وتنقّله بين بيروت والولايات المتحدة، تفاعل بركات وكشف موهبته الروائيّة والقصصيّة، فأصدر منها العديد، "القمم الخضراء" (1956)، "الصمت والمطر" (1958)، "عودة الطائر إلى البحر" (1965)، "طائر الحوم" (1988)، و"المدينة الملوّنة".
ونظنّ أنّ اختصاصه ببحث القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة ساعده على استغلال الواقع، والظواهر الماديّة والاجتماعيّة، ككتاباته القصصيّة والروائيّة. وقد قال مرارا: "تخصّصت في علم الاجتماع ليقيني أنّه سيفيدني في كتابة الرواية، لأنّه يكشف البنى الاجتماعيّة وتأثيرها في الأفراد. وإن معرفة المجتمع وقضاياه أمور ضروريّة لكتابة الرواية".
كان يعالج رواياته أو قصصه كأنّها سيرة ذاتيّة بأسماء مستعارة، فهو يرى أنّ الرواية لا تتكلم على المشاعر بل عن الوعي ومعرفة الطبقات الاجتماعية
هذا يعني أنّه كان يعي منذ البداية موهبته الأدبيّة، وأراد أن يمهّد لها بدراسة العلوم الاجتماعيّة لخدمتها وليس العكس، ونظنّ أنّه وظّف أبحاثا وتحاليل وأفكارا، لكي يتعمق أكثر في نظرته التحليليّة العلميّة. نقصد أنّ الثقافة الإبداعيّة لا تختلف في معرفة الواقع عن الدراسات المنهجيّة والمنطقيّة؛ والغريب أننا لم نجد "سرديّته" الروائيّة في أسلوبه العلمي. بل نقول إنّ منظوره هذا لِربط العلم بالرواية في واقعها الملتبس أحيانا، لا بدّ أن يوجد أسئلة من نوع غير مألوف. ونظنّ أن المعرفة الاجتماعيّة المنهجيّة، لا تكفي لصنع روائي، أو شاعر أو حتّى فنّان. فالموهبة هي العامل الأساسي لمهنة الإبداع، لكن ترفده أبحاث لغويّة وأنثروبولوجيّة، ونفسيّة، واجتماعيّة، تكون مجرّد أدوات لاختراق سلوك الأشخاص ودواخلهم.
فهل نجح حليم بركات في هذه المهمة؟ صحيح أن هاجسَي الهواية والاغتراب من صلب مواضيعه ومعاناته، لكن تغليب المنحى البحثي والعلمي والمعرفي في هذه الحالات، قد يُثقل كاهل الكتابة الروائيّة، عندما يعجز عن تحويل هذه المعطيات العلميّة إلى مادة روائيّة، أو عندما ينوء بأثقالها، فتطغى على بنية الرواية أو القصة.
لكن حليم بركات تمكّن من تجاوز هذه العقبة "التسجيليّة" والتوثيقيّة إلى السيطرة على أدواته، برسم ملامح شخصيّاته ومعاناتهم وأعماقهم، ومشاكلهم وأزماتهم، فنجح في رواية "عودة الطائر إلى البحر" في تقديم عمل صِيغ بلغة حيّة، بتداعياتها الخارجيّة وأنماطها المتنوّعة، وقد ساعده على ذلك أنّه كان يعالج رواياته أو قصصه كأنّها سيرة ذاتيّة بأسماء مستعارة (وهذا ما نجده في روايات عبد الرحمن منيف عندما يتصدى لمسائل واقعيّة في إطار واسع من المعلومات والأبحاث العينيّة). فهو يرى أنّ الرواية لا تتكلم على المشاعر بل عن الوعي ومعرفة الطبقات الاجتماعية.
في فترة تكوينه العلمي نشر روايتين "القمم الخضراء (1966) و"ستة أيام" (1961) ومجموعة قصصيّة هي "الصمت والمطر" (1958)، جمَعَ فيها البعد السيري والهم القومي. وبقي يتنقّل بين هذين المحورَين في معظم رواياته، أحيانا يتردّد في نجاحه وأخرى يلمع في سرديّته.
لكن على الرغم من غزارته النسبيّة في فنّ الرواية والقصص، فإنّ أهميته الكبرى نجدها في أعماله السوسيولوجيّة، التي صاغها بلغة تحليليّة علميّة ودقيقة. في كتابه "المجتمع العربي المعاصر"، وكذلك "المجتمع العربي في القرن العشرين"، وسواهما، بنبرة نقديّة، حتى حين حاول قراءة اغتراب المواطن عن مجتمعه لفساد المؤسسات الرسمية، وهرميّة المؤسسات الاجتماعية.
لكن المفارقة غياب بركات عن المشهد السوري منذ 2011. ربّما يرجع ذلك إلى تقدّمه في السنّ، وربّما يأسه من كل تغيير.