بصورة غير مسبوقة، تحتشد مواقع التواصل العربية، في الأشهر الأخيرة، بالمنشورات المندّد بعضها، و"المذعور" بعضها الآخر، مما يراه أصحاب هذه المنشورات نشرا وانتشارا مريبين للمثلية الجنسية. إنه الغرب طبعا، المتهم الأول والأخير. فالمثلية بمظاهرها المختلفة، غير موجودة، بحسب أولئك، عند العرب، بل إننا اكتشفناها للتو، ورحنا نكيل الاتهامات للغرب "الفاسد" و"الكافر" بالسعي إلى تصدير "شروره"إلى العالم، مستهدفا بذلك قيمنا الاجتماعية.
يحقّ لأي شخص أن يبدي امتعاضه، وأن يسجّل موقفه المناهض لأيّ ظاهرة ثقافية أو اجتماعية أو فكرية يرى فيها ضررا به أو بعائلته ومجتمعه، مثلما يحقّ له العمل، بل والنضال، لمواجهة هذه "الشرور"، لكنّ الغريب في الحملات العربية الأخيرة، بما فيها تلك التي تتبناها وسائل إعلام، هو إنكارها التام، وبوصفها على الأقلّ جزءا من هذا العالم، بل وجزءا فاعلا فيه، وجود بعض هذه الظواهر بين ظهرانيها. هناك رغبة عارمة بالتصرّف وكأنّنا جميعا كتلة واحدة، تحمينا منظومة قيمية واحدة، وتسوّرنا مبادئ اجتماعية منسجمة ومتناغمة. في المقابل، هناك "العدو" الذي كان في السابق "الشيوعي"و"الاشتراكي" بما في ذلك العربي، ثم صار "الفاسد" بالمطلق تعمّم على الغرب، ثم صار "الليبرالي" أيضاً بالمطلق ويشمل أميركا وأوروبا، واليوم هذا العدو هو "المثلية الجنسية" التي يراد "تصديرها" إلينا، مثلما أريد على مرّ العقود تصدير "الشرور"السابقة.
يحقّ لأي شخص أن يبدي امتعاضه، وأن يسجّل موقفه المناهض لأيّ ظاهرة ثقافية أو اجتماعية أو فكرية يرى فيها ضررا به أو بعائلته ومجتمعه، لكنّ الغريب في الحملات العربية الأخيرة، هو إنكارها التام، وجود بعض هذه الظواهر بين ظهرانيها
المشكلة أنه وتحت هذه الراية، تُجيّش المجتمعات لمواجهة "خطر داهم"، وبدلا من فحص الواقع والوقائع الداخلية العربية، وهي ليست مثالية ولا نموذجا يقتدى، والاعتراف بها بادئ ذي بدء، ترى الأصوات المذعورة تلك توجّه سهامها كالعادة نحو الغرب، وتحت هذا التوجيه يتخفّى عنصر لم نتخفّف منه رغم كلّ خطابات التسامح، وهو الشعور الدائم بأن هذا الغرب "فاسد" في الأصل، كونه ليس متديّنا (كما نظنّ جازمين دوما)، وبالتالي يمكن توقع كلّ أنواع الموبقات منه.
نسينا أننا مارسنا الآليات نفسها، والخطابات نفسها، لعقود وعقود، ولم ينتج عن ذلك سوى أجيال من الشباب العربي والمسلم الغاضب، الذي حمل السلاح عند أول فرصة سانحة، وسعى إلى تطبيق "العدالة" بيديه قبل لسانه، فكانت ظاهرة الإرهاب، التي دفعت المنطقة العربية ثمنها سنوات من التأخّر الفكري والتخلف الاقتصادي والأزمات الاجتماعية والسياسية، التي انفجرت وما زالت تنفجر في وجهنا من حين لآخر، مانعة هذه المنطقة من التقدّم ومن استغلال خيراتها وثرواتها والنهوض بمجتمعاتها على النحو الأمثل.
هذا التحذير من "رهاب الغرب" لا يعني ولا يجب أن يفهم بأي حال من الأحوال، بوصفه دفاعا عن أيّ مظهر من المظاهر التي تقلق البعض وتثير حفيظتهم، لكنه يعني بوضوح ضرورة الانتقال من هذا الرهاب، والخوف من ذلك المجهول والمعلوم الآتيين من الآخر الخارجي والغريب، إلى مواجهة الذات مواجهة حقيقية صادقة.إذا كان حاملو راية مقاومة هذه المظاهر صادقين في دعواتهم، فالحريّ بهم البدء بذواتهم ومحيطهم. ولنتساءل كم حالات الاغتصاب التي تُرتكب في العالم العربي، ولا يبلغ عن كثير منها، كم حالات التحرّش والاعتداء على الأطفال، كم حالات سُفاح القربى، كم حالات العنف ضدّ المرأة والطفل، ما مستويات الأمية والفقر والبطالة، ما مستويات تشغيل الأطفال، كم حالات تزويج القاصرات عنوة... وغير ذلك الكثير من المظاهر الاجتماعية الشاذة والتي تحمل بذور كلّ اضطراب وعنف وفوضى وخلل اجتماعي؟
إذا كان هناك من يتوهّم أنه بالإمكان غضّ الطرف عن كلّ هذه الأزمات والتناقضات، وحصر مصادر البلاء والشرور في الغرب فحسب، فيحسن به إعادة النظر.وبدلا من الحشد والتجييش العاطفيين، فلننظر صادقين في المرآة، ولنسأل أنفسنا ماذا فعلنا ونفعل لمواجهة ظواهر الاغتراب الثقافي المتفشية بين الأجيال الشابة؟ وكيف يختلف الهوس العارم، في جوهره، بالمغنين ولاعبي كرة القدم وأخبار المشاهير والمؤثّرين والانبهار الأعمى باللغات الأجنبية، خصوصا الإنكليزية، عن المظاهر الجنسية التي نعترض عليها؟ ولماذا لا نكفّ عن الانبهار بفلسفات العنف الغربية التي تقف وراء صناعة السلاح ونشره في العالم، بقدر اعتراضنا على المثلية الجنسية، ولماذا لا نقف بجدّية ومسؤولية ضدّ الهيمنة الغربية على وسائل التكنولوجيا قاطبة، ونسعى إلى أن تكون لنا كلمة ومساهمة في هذا المضمار؟ ولماذا لا نواجه كميات العنف المسرفة في ألعاب الفيديو والأفلام والمسلسلات، والتي يموت بسببها الآلاف حول العالم؟
نسينا أننا مارسنا الآليات نفسها، والخطابات نفسها، لعقود وعقود، ولم ينتج عن ذلك سوى أجيال من الشباب العربي والمسلم الغاضب، الذي حمل السلاح عند أول فرصة سانحة، وسعى إلى تطبيق "العدالة" بيديه قبل لسانه
باختصار، لماذا اخترنا معركة "المثلية الجنسية" دون سواها؟ وهل ثمة من يضمن، أمام حملات التجييش الضخمة عبر التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام، ألا يخرج من بيننا من يحمل السلاح ويقرر تغيير الواقع بيديه، فيقتحم مثلاً ناديا للمثليين في دولة غربية ما، مدفوعا بهذه الحماسة التي تشبّع بها، ويرتكب مجزرة شنيعة، لا يكون ردّنا أمامها سوى أن مجتمعاتنا وقيمنا براء منها؟
لعلّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة هو أننا مقتنعون، بوعينا أو لا وعينا، بأن حياتنا مرتبطة بهذا الغرب الذي تربطنا به علاقة حبّ/كره غريبة مزمنة، ارتباطا لا فكاك منه، ومثلما نستورد السيارات والموبايلات والأفلام والمسلسلات وأشكال الترفيه الأخرى ومختلف أنواع المنتجات والتقنيات من هذا الغرب، فإننا نخشى دوما أن نستورد القيم والأفكار والاتجاهات والنزعات الثقافية والاجتماعية. وهي خشية مشروعة تماما، لكنّ السؤال يبقى ماذا فعلنا ونفعل لتحصين أنفسنا وأجيالنا من هذه التأثيرات سوى تلقّي كلّ ما يلقى علينا من منتجات استهلاكية، واعتبارها منفصلة عن المظاهر الأخرى، وأحيانا كثيرة النتائج، المترافقة معها؟ وما الذي يمنعنا من أن نكون منتجين لأنماط عيشنا الحديث وسياقاته وأدواته ووسائله، ما دمنا حمائيين إلى هذه الدرجة تجاه كلّ "المنتجات" والسياقات الأخرى للثقافة الغربية؟
العالم يمضي بتسارع، والتكنولوجيا تحدّد إيقاع الحياة وترسم شكل المستقبل، وهذه هي اللحظة التي يجدر بها أن تدفع النخب إلى التفكير، وإيجاد الحلول الذكية للتكيّف بأقلّ أضرار ممكنة.أما الخطاب الذي يصنع أعداء خارجيين، ويغض الطرف عن أزمات الداخل، فهو سيناريو مكرّر، عشناه بوجوه وأقنعة أخرى، وأخشى أننا نعيشه اليوم مرة أخرى.