العلاقات الهندية الأميركية: حدود النجاح واحتمالات الإخفاق

رويترز
رويترز

العلاقات الهندية الأميركية:
حدود النجاح واحتمالات الإخفاق

في شهر مارس/آذار 2012 وخلال زيارته نيودلهي لحضور اجتماع "الهند اليوم" (The India Today conclave)، سُئل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، أحد أبرز رواد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، عن رأيه في اعتماد الهند سياسة "الاستقلال الاستراتيجي" (Strategic Autonomy). أجاب كيسنجر: "أعتقد أن الهند يجب أن تتبع تصورها الخاص لمصالحها الوطنية. وآمل أن نتمكن (الهند والولايات المتحدة) من إيجاد سياسة متوازية في ما يتعلق بالقضايا الرئيسية".

وعندما طُلب من كيسنجر شرح مفهومه للسياسات المتوازية وما إذا كان يمكن أن تلتقي أو تتقاطع، قال كيسنجر إنهم يفعلون ذلك في كثير من المجالات، مضيفًا: "أود أن أعتقد أنه إذا سار كل جانب وفق قناعاته الخاصة فإن ذلك سيؤدي إلى نتائج متوافقة ومتعاونة." وبهذا وضع كيسنجر تصوره للإجابة على الإشكاليات التي قد تواجه تطوير العلاقات ليس بين الولايات المتحدة والهند فقط، بل قد تصح لضبط إيقاع العلاقات بين القوى الدولية الوازنة. فما هي المقاربات التي اعتمدتها واشنطن وأين هي من واقعية كيسنجر؟

هل تكفي القيم المشتركة لبناء العلاقات الاستراتجية؟

دأب صناع السياسة في الولايات المتحدة على اعتبار القيم المشتركة التي تجمع الهند والولايات المتحدة أساساً لبناء علاقة ذات أهمية استراتيجية بين الدولتين، فلا بد لأكبر ديمقراطيتين في العالم أن تجمعهما وجهات نظر واهتمامات مشتركة على حد قولهم. لقد كتب الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في رسالة وجهها إلى المهاتما غاندي (Mohandas Karamchand Gandhi ) في الأول من أغسطس/آب 1942: "مصلحتنا المشتركة في الديمقراطية والاستقامة ستمكّن أبناء بلدينا من صناعة قضية مشتركة لمواجهة عدو مشترك". لكن غاندي أحبط محاولات روزفلت حين أعطى الأولوية لنضال الهند من أجل الحرية ومواجهة الأمبراطورية البريطانية على الحرب ضد الإمبراطورية اليابانية وألمانيا النازية.

استمرت محاولات الإدارات الرئاسية الأميركية المتعاقبة لإقناع نيودلهي بمواجهة موسكو، فالهند كدولة ديمقراطية هي عدو طبيعي للاتحاد السوفياتي في العقل الأميركي، وقد اعتمد الأميركيون أسلوب المساعدات التي نمت بشكل كبير خلال الولاية الثانية للرئيس دوايت أيزنهاور، حيث قفزت من حوالي 400 مليون دولار في عام 1957، إلى رقم قياسي بلغ 822 مليون دولار في عام 1960، وقد بدا أيزنهاور كملتزم بمستقبل الهند الديمقراطي. هذا وقد وقّع أيزنهاور خطة لسنوات متعددة لتقديم 1.28 مليار دولار من المساعدات الغذائية للهند في إطار برنامج الغذاء من أجل السلام، لأن المزارعين المحليين في الهند كانوا غير قادرين بشكل روتيني على تلبية احتياجات البلاد الغذائية. وبالرغم من ذلك لم ينجح الرئيس إيزنهاور في تحويل نيودلهي إلى حليف، فقد أصر رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو على التزام بلاده موقف عدم الانحياز من الحرب الباردة، كما رفض أثناء زيارته لواشنطن في عام 1961 خلال ولاية الرئيس جون كينيدي إدخال الهند في فلك الولايات المتحدة.

استمرت محاولات الإدارات الرئاسية الأميركية المتعاقبة لإقناع نيودلهي بمواجهة موسكو، فالهند كدولة ديمقراطية هي عدو طبيعي للاتحاد السوفياتي في العقل الأميركي

يصف الدبلوماسي السابق دينيس كوكس في كتابه "الهند والولايات المتحدة: الديمقراطيات المتباعدة" (India and the United States: Estranged Democracies  ) الإحباط المتكرر لرؤساء الولايات المتحدة حيال المواقف الهندية. يذكّر كوكس بانتقادات رئيسة الوزراء الهندية أنديرا غاندي عام 1966 لتورط الولايات المتحدة في فيتنام التي أثارت ردود فعل عنيفة من قبل الرئيس ليندون جونسون، كما يعرض توصيف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر لقرار غاندي اللاحق عام 1971 بإبرام "معاهدة صداقة" مع موسكو بأنه كإلقاء "عود ثقاب في برميل بارود"، الأمر الذي أدى إلى تأجيج الخلافات بين الهند وباكستان. وفي يناير/كانون الثاني 1980، أثار تأييد سفير الهند الدائم لدى الأمم المتحدة غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان غضب الرئيس جيمي كارتر حيث وصّف سفير الولايات المتحدة في نيودلهي الموقف الهندي بالمدمر من وجهة النظر الأميركية، مشيراً إلى ردة الفعل الرهيبة التي أحدثها داخل الولايات المتحدة".


هذا ولم تكتفِ نيودلهي برفض التحالف مع واشنطن خلال الحرب الباردة بل أقامت علاقات متينة مع موسكو واستمرت في المحافظة عليها بعد انتهاء الحرب الباردة، بالتزامن مع تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، استمر صناّع السياسة الأميركية في اعتبار المبادئ الديمقراطية أساساً للشراكة مع الهند، وغالباً ما أشادوا بها في العقود التي تلت، ففي خطابه أمام البرلمان الهندي في عام 2000، أكّد الرئيس بيل كلينتون أن قوة الديمقراطية الهندية كانت في طليعة دروس مهمة علمتها للعالم، كما دأبت إدارات الرئيسين جورج دبليو بوش وباراك أوباما على استخدام عبارة "أقدم وأكبر الديمقراطيات" لوصف واشنطن ونيودلهي وعلاقاتهما طويلة الأمد. وفي خطاب ألقاه عام 2010 أمام البرلمان الهندي، شدّد أوباما مراراً وتكراراً على الرابطة الفريدة التي تشترك فيها "ديمقراطيتان قويتان"، كما أيّد جهود الهند للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن مشيراً إلى أن التعاون بين الهند والولايات المتحدة في المجلس سيعزز "أسس الحكم الديمقراطي، ليس فقط في الداخل ولكن في الخارج". وبالرغم من كل ذلك لم تجارِ نيودلهي واشنطن في مواقفها من إيران كما رفضت في الآونة الأخيرة إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

الشراكة في المصالح قيمة ثابتة في العلاقات الدولية


إن دأب الولايات المتحدة على اعتبار القيم الديمقراطية هي حجر الزاوية في بناء العلاقات مع الهند يفتقر للواقعية. لقد أثبتت التجربة أن العلاقة بين الدولتين لم تتأثر بالاختلال الديمقراطي الذي تشهده الهند. فمنذ وصول رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة منذ تسع سنوات أصبحت الديمقراطية في الهند موضع شك على نحو متزايد، إذ شهدت البلاد تصاعداً في أعمال العنف الموجهة ضد الأقلية المسلمة ومحاولات لنزع الجنسية عن ملايين المسلمين، هذا عدا  الإجراءات التي اتخذت ضد الصحافة والمعارضة بما أسقط اعتبار علاقة الولايات المتحدة مع الهند شراكة ترتكز إلى قيم الديمقراطية. 

رويترز
الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اثناء اجتماعهما في البيت الابيض في 23 يونيو


وعلى الرغم من الأرضية الديمقراطية المتزعزعة ساهمت المصالح والتحديات المشتركة للدولتين في تطور العلاقات بينهما، فلدى الهند والولايات المتحدة عدو جيوسياسي مشترك هو الصين، حيث يدرك كل منهما حاجته للآخر في صراعه مع بكين. الهند قوة محورية هائلة في آسيا تقع على جانبيّ طرق بحرية حرجة وتشترك في حدود برية طويلة متنازع عليها مع الصين، وفي المقابل فإن الولايات المتحدة هي مصدر جاذب للتكنولوجيا المتقدّمة والتعليم والاستثمار. وبهذا يبدو التحول في دور الهند منطقياً من شريك في النضال من أجل الديمقراطية مع الولايات المتحدة إلى حليف جيوستراتيجي وشريك لها في المصالح. هذا مع الإشارة إلى أن  ذلك لم يتعارض في نظر نيودلهي مع المحافظة  على علاقاتها الوثيقة مع موسكو، ودائماً وفقاً للمصالح، بالرغم من انفتاحها  أكثر من أي وقت مضى على شراء أسلحة من الغرب بدلاً من روسيا. 
 

لم تكتفِ نيودلهي برفض التحالف مع واشنطن خلال الحرب الباردة بل أقامت علاقات متينة مع موسكو واستمرت في المحافظة عليها بعد انتهاء الحرب الباردة، بالتزامن مع تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة

لطالما كان قرار مساعدة الهند تلقائياً بالنسبة لواشنطن، فعندما وقعت الاشتباكات على طول الحدود الصينية الهندية بين جيشي البلدين في عام 2020، زودت واشنطن نيودلهي بالمعدات التي تحتاجها بالإضافة إلى معلومات استخباراتية بشأن المواقع الصينية. كما قامت بتسريع عمليات تسليم طائرات المراقبة دون طيار. ومنذ ذلك الحين، خلص المسؤولون الأميركيون إلى إمكانية إجراء مناقشات صريحة مع قادة الهند حول التعاون الدفاعي سواء في البر أو البحر أكثر مما كانت عليه في الماضي. يعتقد الأميركيون أن التهديد القادم من الصين، إلى جانب الغزو الروسي لأوكرانيا، يقدمان لواشنطن فرصة لا تتكرر لحمل نيودلهي بشكل حاسم على استبدال اعتمادها الكبير على المعدات العسكرية الروسية الصنع بمنظومات أميركية. كذلك فإنّ وحدة المخاطر التي تمثلها الصين للدولتين ستؤدي إلى مزيد من الاندفاع نحو التعاون على المستوى التكنولوجي لا سيما تطوير البنية التحتية للمعلومات والاتصالات وذلك للمنافسة في صناعة عالمية أضحت بكين تشكل خطراً في السيطرة عليها. 


نيودلهي ودون أدنى شك هي  شريك لا يقدّر بثمن لواشنطن، فبالإضافة لكونها الدولة الأكثر سكاناً في العالم، وصاحبة خامس أكبر اقتصاد وثاني أكبر جيش في العالم وكادرات هامة من العلماء والمهندسين ذوي التعليم العالي، ولديها ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية، فهي شريكة الولايات المتحدة في قلقها العميق حيال الصين. الدولتان تعتبران الصين قوة خطرة عازمة على تحدي وتغيير النظام الإقليمي والعالمي. يفضي كل ذلك إلى اعتبار المرحلة الراهنة هي الأكثر إلحاحاً للتعاون بين الولايات المتحدة والهند.


 
أين أصبحت العلاقات الأميركية الهندية الآن؟ 


يمكن القول إن العلاقات بين الهند والولايات المتحدة أفضل مما كانت عليه في أي وقت مضى، فالخلافات الحادة أضحت تُناقش الآن بصراحة كبيرة بين المسؤولين من كلا الجانبين، وقد أصبح لهذه العلاقة هياكلها ونقاط اتصال متعددة. تشمل الحوارات الاستراتيجية التي تشارك فيها الولايات المتحدة والهند "الرباعي" (the Quad مع اليابان وأستراليا)، وI2U2 (مع إسرائيل والإمارات العربية المتحدة)، والحوار (2+2) الذي يضم وزراء الدفاع والخارجية، ومجموعة سياسة الدفاع (Defence Policy Group DPG) ، ومبادرة مستشار الأمن القومي (NSA) بشأن التقنيات الهامة والناشئة (ICET - Initiative on critical and emerging technologies) . كما يوجد لدى البلدين منتدى للسياسات التجارية، وحوار تجاري، وشراكة اقتصادية ومالية، وحوار تجاري استراتيجي، ومنتدى للمديرين التنفيذيين. وقد تم توسيع جدول الأعمال بشكل أكبر من خلال المناقشات على مستوى مجلس الوزراء بما يشمل شراكة استراتيجية في الطاقة النظيفة وحوار التعليم العالي، وتشارك الهند أيضاً في ثلاث من الركائز الأربع للإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ  (IPEF- The Indo-Pacific Economic Framework ). 


أما التقارب الأكثر دراماتيكية في السنوات الأخيرة بين الدولتين فكان حول القضايا الاستراتيجية، حيث أصبحت الفكرة القائلة بأن الهند والولايات المتحدة يمكنهما العمل بشكل وثيق مع شريك ثالث وفي مناطق ثالثة الآن حقيقة واقعة، وأداتها  الرئيسة في منطقة المحيطين الهندي والهادي هي الرباعية (The Quad) التي تعمل في ميدان التقنيات الحرجة والناشئة والمجال البحري والبنية التحتية، والصحة والأمن السيبراني والفضاء والطاقة النظيفة. كما تواصل دول الرباعية، بما في ذلك اليابان وأستراليا، تبادل وجهات النظر حول التطورات الاستراتيجية والعمل معاً بأشكال مختلفة للتعاون الأمني. لقد أصبح التنسيق بشأن الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادي بين الحكومتين الآن واسعاً ومنتظماً، كما يعنى (I2U2)  الذي تشارك فيه إسرائيل والإمارات والهند والولايات المتحدة، مشاريع محددة بشأن الأمن الغذائي والطاقة النظيفة.

أما فيما يتعلق بالأمن الثنائي، فقد زادت المشاركات العسكرية- بما في ذلك محادثات الأركان، والتبادلات  والتدريبات العسكرية– من قدرة الجيشين على العمل معاً وبناء قواعد التعاون. وقد تم توقيع اتفاقيات التمكين لتسهيل اللوجستيات والاتصالات الآمنة، إلى جانب بعض البروتوكولات الأساسية الأخرى. كما كان التعاون البحري واعداً بشكل خاص، بما في ذلك مبادرة الشراكة الجديدة بين المحيطين الهندي والهادي للتوعية بالمجال البحري (IP-MDA)  التي تتضمن تبادل بيانات الترددات الراديوية على مستوى المنطقة لتأمين البحار بشكل أفضل
(Indo-Pacific Partnership for Maritime Domain Awareness).

أما من الناحية الاستراتيجية ، فتعمل الهند والولايات المتحدة على تحسين التنسيق في عدد من المناطق الجغرافية والمؤسسات في غرب آسيا (الشرق الأوسط) وأفريقيا. هذا وقد نمت مبيعات وإمدادات الدفاع الأميركية للهند وزاد الإنتاج المشترك، حيث تقوم معظم شركات الدفاع الكبيرة حالياً بتوفير المنتجات أو الخدمات من الموردين الهنود. وتمثل الطاقة النظيفة والتقنيات المرتبطة بها مجال تعاون واعد، إذ تستثمر الشركات الأميركية في قطاع الطاقة المتجددة الطموح- وإن لم يكن بأحجام مثالية بعد– ومن ضمنها الهيدروجين الأخضر، كما تنتج هذه الشركات أيضاً أجهزة التحليل الكهربائي. كذلك فإنّ التنسيق بشأن المعادن الهامة- خاصة الليثيوم والغرافيت والكوبالت– هو قيد التنفيذ بالفعل، كما يقوم البلدان بالتنسيق في تقديم خدمات المعلومات المناخية.
إلى جانب الطاقة النظيفة، تتحرك الشراكة التكنولوجية الأوسع أيضاً في اتجاه إيجابي. ويشمل ذلك التنسيق بشأن اتصالات الجيل الخامس، والتعاون الناشئ في تحديد نقاط الضعف والتقدم الواعد في تقنيات الفضاء، وتطوير الشبكات بين المستثمرين، والتعاون في سلاسل التوريد، وتمويل مكافحة الإرهاب، والتهرّب الضريبي، كما تمت معالجة الاختلافات حول حوكمة البيانات إلى حد كبير. وبالرغم مما بلغته العلاقات التجارية من قوة  مع وجود كبير للشركات الهندية والأميركية في البلدين لا يزال هناك الكثير من الإمكانات غير المستكشفة.

ميادين الاختلاف الرئيسة


لا تزال الخلافات الاستراتيجية قائمة بين واشنطن ونيودلهي فيما يتعلق بروسيا وباكستان وبنغلاديش، على الرغم من مناقشتها علناً في المنتديات الثنائية. إذ لا تزال الهند ترى الحاجة إلى مشاركة روسيا في مجالات الدفاع التقليدي والطاقة والأمن الغذائي والتقنيات الحيوية مثل الطاقة النووية والفضاء، فضلاً عن الأولويات الاستراتيجية الأكبر في أوراسيا. 


من ناحية أخرى، تتمتع الولايات المتحدة بعلاقات طويلة الأمد مع صناع القرار في باكستان، على الرغم من الاضطرابات السياسية والاقتصادية المستمرة هناك، وهناك محاولات أميركية أحيانا لإحياء الشراكة مع باكستان رغم تضاؤل مستويات الثقة والأهمية. أما فيما يتعلق ببنغلاديش، فإن الولايات المتحدة تؤكد على تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية والترابطية مع الحكومة الحالية.


من جهة أخرى هناك اختلافات وتباينات في المفاهيم حول المعايير الديمقراطية على الرغم من مشاركة الهند في القمّة العالمية للديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة وتعاون البلدين لتعزيز المؤسسات الديمقراطية في دول ومناطق ثالثة. وتتجلى هذه الاختلافات بشكل أكثر وضوحاً في المسائل المتعلقة بالحرية الدينية التي ترفضها الحكومة الهندية وتعتبرها  تدخلاً غير ضروري وتشير من خلالها إلى عيوب في الديمقراطية الأميركية، هذا وتستمر الاختلافات الحادة في المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف، والتي غالباً ما تتخذ مساراً  عدائياً مقارنة بالمناقشات التجارية الثنائية.

التعاون الأميركي مع الهند: الحدود والمحاذير


يستهدف التعاون مع الهند بالنسبة للمسؤولين الأميركيين مواجهة التهديدات المباشرة التي تشكلها الصين، وقد أجرت الولايات المتحدة تدريبات عسكرية مشتركة مع الهند بالقرب من الحدود الصينية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. من المنطقي لواشنطن أن تعقد اتفاقات تمكنها من الاستفادة من الموانئ البحرية الهندية لقاء خدمات استخبارية أو تقنية. لكن الذهاب إلى الموافقة على اقتراح قدمته شركة "جنرال إلكتريك" مثلاً في وقت سابق من هذا العام للإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا الأميركية إلى محركات الطائرات المقاتلة في الهند بما يعزز صناعتها الدفاعية المحلية لعقود، قد لا يخدم المصالح الأميركية على المدى الطويل.
 

لقد أمضت نيودلهي سنوات ما بعد الحرب الباردة متأرجحة بشأن الدور الذي ينبغي أن تلعبه بين بكين وواشنطن، كما أن تقاربها الحالي مع الولايات المتحدة هو وليد ظروف موضوعية فرضها صعود الصين، وهي عرضة للتبدل. هذا بالإضافة إلى أن نيودلهي جزء من منظمة شنغهاي للتعاون التي أسستها بكين كما أن حجم التبادل التجاري بينهما لم يتأثر بالاشتباكات الحدودية. هذا بالاضافة إلى أن صانعي السياسة في الهند يميلون إلى عالم متعدد الأقطاب- تتمتع فيه الهند بحرية التنقل ضمن علاقات مرنة مع القوى العظمى الأخرى- منه إلى عالم تقوده الولايات المتحدة أو تحدده حرب باردة جديدة بين بكين وواشنطن، عالم جديد يفرض على نيودلهي أن تنحاز إلى أحدهما، وهذا ما يشكل واحدة من أهم مخاوف نيودلهي وهي البقاء على الهامش الجيوسياسي إلى أجل غير مسمّى.


لن تكون الهند يوماً عضواً في حلف الناتو وهي لا  تطمح إلى هذا النوع من التحالفات، كما أنها ليست مرشحة لمبادرات مثل صفقة (AUKUS) بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (والتي ستساعد أستراليا على تطوير تقنيات الغواصات النووية) لأن مثل هذه الصفقات تستلزم مشاركة نقاط الضعف الأمنية المهمة التي يمكن تبادلها بأمان بالطريقة التي تفعلها مع ما يسمّى شركاء العيون الخمس: أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة.


لا شك أن إدارة بايدن تنأى بنفسها عن البحث عن علاقة افتراضية مع الهند قائمة على القيم نحو علاقة حقيقية قائمة على المخاوف المشتركة جراء صعود الصين وعلى مجموعة واسعة من المصالح المشتركة الأخرى التي تشكل حوافز قوية وبناءة للتعاون، وهناك الكثير مما يمكن للجانبين القيام به معاً. ربما ينبغي على واشنطن أن تخفف من توقعاتها بشأن الحوار الأمني الرباعي بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة. ولئن كان البيت الأبيض يأمل في أن تكون الرباعية رابطة للديمقراطيات الليبرالية في المحيطين الهندي والهادي، فإن أقصى ما يجب أن تفعله الرباعية هو التعامل مع المنطقة بشكل أفضل ويجب أن تكرس نفسها لهذه المهمة.

رويترز
الرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في صورة مشتركة على هامش قمة مجموعة العشرين في مدينة اوساكا اليابانية في 28 يونيو 2019


لقد أمضت الولايات المتحدة سنوات من التعاون مع أنظمة لا تشبهها من أجل تعزيز أمنها، وهي نجحت في مرحلة ما حتى مع الدولة التي تحاول نيودلهي وواشنطن الآن التفوق عليها في المنافسة. لقد هدف انفتاح إدارة نيكسون على الصين عام 1972 إلى استغلال الخلافات بين بكين وموسكو لتقديم ميزة حاسمة للولايات المتحدة في الحرب الباردة. وقد نجح ذلك؛ حيث أدت مناورة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى تعميق الانقسامات في الحركة الشيوعية العالمية، وساعدت في تقييد فرق الجيش السوفياتي على طول الحدود مع الصين، وزودت واشنطن بنفوذ إضافي على موسكو. لكن ما تبع ذلك كان أكثر إثارة للجدل. لقد أدى انفتاح  نيكسون في النهاية إلى طوفان من الاستثمار الأميركي في اقتصاد الصين والتعاون عبر كثير من القطاعات،  بما في ذلك الدفاع والأمن، وقد أدت مساهمات الولايات المتحدة إلى صعود الصين لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. 

لا شك أن مجالات التعاون بين الهند والولايات المتحدة تفوق بسهولة مجالات الاختلاف الأساسي وهناك طرق متنوعة لتحويلها إلى شراكة حقيقية. لقد دفعت الخلافات الحادة مع الصين بشأن الأمن والسياسة الإقليمية والاقتصاد والتكنولوجيا الهند إلى زيادة الاستثمار في علاقتها مع الولايات المتحدة، وقد سبق لنيودلهي أن تواصلت في كثير من الأحيان مع الولايات المتحدة في الأوقات التي كانت فيها المشاعر العالمية تجاه القوة أو السياسة الأميركية متناقضة، كما كان الحال بعد غزو العراق أو الحرب على أفغانستان.

لكن استمرار الهند في الحفاظ على استقلاليتها الاستراتيجية التي قيّمها كيسنجر بشكل إيجابي ينبغي أن يكون موضع تقدير جيد في عالم يعاني من فائض القوة بشكل متزايد. وفي النهاية، يبقى الرهان على قدرة الولايات المتحدة والهند على تعظيم الفوائد عبر مصالحهما المتداخلة في ظل اتّساع دائرة العنف والتوتر التي تشهدها مناطق عديدة في العالم وفي ظل عودة العصبيات وارتفاع حدة الخطاب المتطرف.
 

font change