هذه الكتابة ليست توثيقا خبريا لما عاناه ولا زال يعانيه جموع السودانيين الفارين من الحرب. بل هي مجرد تجميع لشتات أفكار ومشاهدات شخصية، قد لا تصف بدقة حجم ما مر به السودانيون حتى الآن، لكنها ربما تعكس بعض جوانب رحلة التيه التي بدأت مع حريق الخرطوم الذي اشتعل في منتصف أبريل/نيسان 2023، ولم ينته حتى الآن.
لم تفارقني أبدا افتتاحية قصيدة الشاعر الشعبي السوداني حاتم حسن الدابي، التي تغنى بها الفنان السوداني جعفر السقيد في منتصف التسعينيات، ساردا رسالة زوجة تشتكي إلى رفيق دربها معاناتها بينما هو في الغربة، فصدّرت خطابها: "ما كنت دايرة أقولو ليك، لكن لسان الحال غلب". وللمصادفة الحزينة انطلقت هذه الأغنية في إحدى باصات السفر التي اتخذتها في رحلة التشرد بحثا عن ملاذ آمن بين أنحاء بلادي الشاسعة. ساد الصمت لبرهة، ثم أجهشت أعين النساء والرجال بالدموع الصامتة ثم بالبكاء الصريح بعد هنيهة، إذ يبدو أن لسان الحال، قد غلب على كبرياء وأنفة هذا الشعب المسكين، الذي كلما أزهرت آماله بغدٍ أفضل، أصابته مصيبة من حيث لم يدرِ ولم يحتسب قبل أن تثمر.
ضيق العيش
هل ضاقت علينا بلاد السودان الواسعة؟ هل ضاق بلد الخير والطيبة، الذي تغنى له سكانه بأن "أرضه خزائن، فيها جنائن، ونجومه عيون للخير بتعاين"؟ هل ضاق الوطن، أم اتسعت الزنزانة، وأصبح السجن جحيما، يهرب منه السودانيون طلبا للسلامة، أم إنها غفلة من نادم التنين في عز الصيف، وغض النظر عن غدر حرائقه وسوء فعاله؟
أيا كان، فقد ارتحلنا عن بلادنا، وتركنا قلوبنا هناك... اتخذنا طرق السفر إلى المجهول سبيلا، وأعيننا تنظر للخلف، فالمحبوب الذي تركناه وراءنا أعز وأغلى وأجمل من أن نستدبره ظهورنا.