اختفت قوات الشرطة، واختفت الدولة، ولم ييق من أثر لمظاهرها غير آلة العنف وأصوات القصف وطلقات الرصاص. فانطلقت لجان المقاومة مرة أخرى لتسد الثغرة. كان البروز المستقل الأول للجان الشعبية لتسد فراغ غياب الطبقة السياسية المنظمة في الأحزاب السياسية بعد اعتقال قياداتها إثر انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. والآن برز دورها مرة أخرى ليسد فراغ غياب الدولة. انطلق هؤلاء الشباب بشجاعة منقطعة النظير في شوارع الخرطوم لينشطوا في عمليات إجلاء العالقين داخل مناطق القتال، وتشغيل المستشفيات، وإسعاف الجرحى المدنيين، والإمداد بالمواد الغذائية، بل وحتى الإمداد بالمياه، بعد أن أدى احتلال ميليشيا الدعم السريع لمحطة مياه بحري لقطع المياه عن ثلث سكان العاصمة على الأقل. انتظمت هذه اللجان فيما سمته "غرف الطوارئ" لنجدة شعبها في محنته، وتسخر من عنفوان البندقية والمسدس.
إشعال السماء
أشعـــل الجيش ســماء الخرطوم، واحتلت الميليشيات أرضها… فأخرجوا أهل الخرطوم من ديارهم بغــــير حق ومن دون هدى إلا طلـبا للأمان.
تركوا خلفــهم ضحايـاهم وأموالــهم وأحلامهم وذكرياتهم وأكثر من ذلك، إحســـاسهم الزائف بالأمان الذي اطمأنوا له طويلا، وسط بلد ظل يحترق لسنوات عديدة من أطرافه.
لم يكن ثقل رحلة التيه السوداني في مغادرة الوطن فحسب، ولكن- وكما كل أسفار اللجوء- كان الأمر المخيف هو ثقل المجهول. وفي كل سفر من هذا النوع حكاية لا تُروى إلا بعد اجتياز حائط الإجابة على حيرة الأسئلة الصعبة. أن تسافر وأنت لا تدري متى تعود؟ وهل ستعود؟ أم إن وحش المنافي سيجد ضالته مرة أخرى في فريسة جديدة! اصطفت باصات السفر إلى ولايات السودان المختلفة. فتح السودانيون في الريف بيوتهم لاستقبال "ضيوف الخرطوم" في كرم أصيل. وكذلك كشر اقتصاد الحرب عن أنيابه بشدة، فظهر تجار الأزمات، واشتعل جنون الأسعار في إيجار العقارات في الولايات وفي أسعار السلع والأغذية والاحتياجات الأساسية وكل شيء. توقف النظام البنكي عن العمل وتعطل إلا من بعض التطبيقات البنكية التي تعمل أحيانا وتتوقف أحيانا أخرى، فزاد غياب السيولة النقدية من جور الأزمة على السودانيين، الذين ساوت هذه الحرب بين غنيهم وفقيرهم، وكأنها يوم الحشر.
فتحت دول الجوار السوداني في الأيام الأولى للأزمة، أبوابها مشرعة للسودانيين الفارين من جحيم الحرب. وبين هؤلاء، وقف شعب وحكومة جنوب السودان شامخين في كرمهم تجاه شعبنا السوداني في هذا الوقت من كارثة الحرب في بلادنا. موقف يتحدث عن الأخوة والإنسانية والقرابة. اختاروا السمو فوق كل شيء وتقديم ترحابهم الأخوي. لا تأشيرات ولا جوازات سفر ولا أوراق ولا بيروقراطية من أي نوع وقفت في طريقهم لمد أيديهم بالمساعدة وفتح حدودهم وأراضيهم ومنازلهم وقلوبهم للسودانيين، واحتضان أولئك الفارين من جحيم حرب عبثية لا طائل من ورائها. في الوقت الذي ساد فيه الظلام، وقفت جوبا كمنارة مشرقة للرحمة والمودة والإنسانية. وأيضا، وعلى الرغم من بعض التعقيدات الإدارية، استقبلت مصر وتشاد عشرات الآلاف من السودانيين اللاجئين إليهما، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تمر بها كل هذه الدول.
محظوظون
هرب السودانيون من القتل والتنكيل والدمار الذي حاق ببلادهم جراء هذه الحرب التي تجاوزت الشهرين، طلبا للأمان. ولكن هؤلاء الذين استطاعوا الخروج من دوامة هذه الحرب المحرقة حتى الآن، هم المقتدرون ماديا، الذين استطاعوا دفع تكاليف الارتحال والسفر والتي تضاعفت بشكل جنوني في هذا الوقت الصعب. وللأسف، لا تزال الفئات الأكثر ضعفا عرضة للخطر والموت والانتهاكات بين شقي رحى الميليشيات المتوحشة والجيش العاجز.