مسائل كثيرة طارئة، تخيم على قمة "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) في فيلنيوس، العاصمة الليتوانية يومي 11 و12 الشهر الجاري، لكن القضية الأكبر تعود جذورها إلى قمة الحلف في بوخارست، عاصمة رومانيا قبل 15 سنة، عندما "رحب" القادة برغبة أوكرانيا (وجورجيا) بالانضمام إلى "الناتو"... على حدود روسيا.
حاليا، هناك انقسام بين أعضاء الحلف إزاء تزويد أوكرانيا بطائرات "إف-16" الأميركية والقنابل العنقودية، وتحديات في الدول الأوروبية تخص الهجرة واللاجئين وأحداث العنف وتنامي اليمين. لكن السؤال الأساسي على طاولة قادة "الناتو" والدول الحليفة مثل اليابان وأستراليا وغيرها: ماذا عن رغبة أوكرانيا بالانضمام إلى الحلف؟
حصلت أوكرانيا على قسم مما تريده في قمة "الناتو" في مدريد العام الماضي، باعتبار روسيا "أهم تهديد" لأمن دول الحلف والاستقرار في المنطقة العابر للأطلسي، وعلى السلاح والذخيرة والمعلومات الاستخباراتية في الحرب المستمرة لأكثر من 500 يوم.
هذا الدعم أفشل خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لـ"تغيير النظام" في كييف وتحقيق انتصار سريع خلال أيام وأوقع روسيا في مستنقع عاد صداه بالمسيّرات والجثامين والميليشيات إلـى موسكو.
كما أنه أدى إلى نتائج عكس ما أرادت موسكو في الجناح الشرقي لـ"الناتو"، فتعزز وجود الحلف وزاد عصب الدول الأعضاء بوحدتها وزيادة إنفاقاتها الدفاعية ومساهمتها في موازنة "الناتو" مع تشكيل حلقات رديفة أخرى وتغيير في أولويات دول كانت "محايدة" أو "مهزومة" منذ الحرب العالمية الثانية مثل اليابان وألمانيا وسويسرا. واتفقت الدول الأوروبية على فرض العقوبات على روسيا والتخلي التدريجي عن الغاز الروسي. وبعد أكثر من سنة، فإن حصاد الهجوم على أوكرانيا عكس ما كتبه بوتين بالفعل.
على طاولة القادة في العاصمة الليتوانية، قضية واحدة هي حرب أوكرانيا، ومسألتان رئيستان: الأولى تخص السويد. والثانية أوكرانيا
على طاولة القادة في العاصمة الليتوانية، قضية واحدة هي حرب أوكرانيا، ومسألتان رئيستان: الأولى تخص السويد. والثانية أوكرانيا. نجحت فنلندا في الانضمام عاجلا إلـى "الناتو"، لكن عضوية السويد لا تزال معلقة بانتظار قرار تركيا (وهنغاريا). لبّت استكهولم الكثير من طلبات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فيما يخص تنظيمات كردية وأخرى تتعلق بفتح الله غولن، لكن قائمة الطلبات طويلة من الحلف وواشنطن، قبل رفع "الفيتو" على ضم السويد إلى "الناتو".
أغلب الظن، أن استقبال أردوغان للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وتسليمه عناصر من حركة "آزوف" في شكل مناقض لتفاهمات أنقرة مع الرئيس فلاديمير بوتين إزاء صفقة تبادل الأسرى الروسية– الأوكرانية قبل سنة، وحديثه (اأردوغان) عن ضرورة انضمام أوكرانيا لـ"الناتو"، ما هي إلا جوائز ترضية قبل قمة فيلنيوس... و"هدية" لحلف شمال الأطلسي في لحظة ضعف روسية، بعد وصول المسيّرات إلى موسكو وسير "جيش فاغنر" في الطريق إليها.
بعيدا عن البيانات والرغبات السياسية، فلن تحصل أوكرانيا على العضوية التي تريد. إذا تم قبولها كعضو الآن، سيتعين على "الناتو" الدخول في حرب مع روسيا
من هنا تأتي أهمية القضية الثانية التي تهيمن على قمة "الناتو"، وهي عضوية أوكرانيا؛ حيث أصبحت عضوية "الناتو" هدفا استراتيجيا لكييف، وجسد زيلينسكي ذلك الهدف قانونيا ودستوريا في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، حين وقع على طلب رسمي للانضمام إلى الحلف. وقد استند إلى قمة الحلف في بوخارست عام 2008 عندما أعلن القادة "الترحيب بتطلعات أوكرانيا وجورجيا الحصول على عضوية الناتو، ووافق على أن تصبحا عضوين في حلف الناتو".
بغض النظر عن كيف بدا هذا الترحيب، فإنه كان بمنزلة بيان سياسي أكثر منه بداية لعملية رسمية. لكن روسيا اعتبرت توسيع "الناتو" شرقا نحوها، تهديدا مباشرا لأمنها القومي. ورسمت خطها الأحمر بشأن عضوية أوكرانيا في الحلف، قائلة إنها ستعتبر ذلك "عملا عدائيا". وكان هذا بين الذخيرة التي اعتمدها الكرملين في هجومه على أوكرانيا بداية 2022.
وبعيدا عن البيانات والرغبات السياسية، فلن تحصل أوكرانيا على العضوية التي تريد. السبب مباشر: إذا تم قبول أوكرانيا كعضو الآن، وهي في حالة حرب مع روسيا، فإنه بموجب المادة 5 من اتفاقية واشنطن، ميثاق الحلف، سيتعين على "الناتو" الدخول في حرب مع روسيا، دفاعا عن حليف يتعرض للهجوم. بل أكثر من ذلك. حتى لو حصل اتفاق سلام ووقف للأعمال العدائية بين أوكرانيا وروسيا، فإن هناك خلافا بين أعضاء "الناتو" إزاء حدود التسوية: حدود شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014، حدود فبراير/شباط 2022 أم ما بعد ضم المناطق الشرقية؟ من المرجح جدا أن تظل بعض الأراضي الأوكرانية كشبه جزيرة القرم، وشرق أوكرانيا في أيدي روسيا. ومن غير المرجح أن يجازف "الناتو" بقبول عضوية أوكرانيا في وضع كهذا.
مشاركة دول مجاورة للصين، مثل اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، ليست رسالة طمأنة لبكين
وبقدر ما يتصف موقف زيلينسكي بأنه ذهاب للحد الأقصى، فإن أوكرانيا ليست منفصلة عن الواقع، ويبدو أن الهدف الحقيقي حاليا، لا يتجاوز الخروج من قمة فيلنيوس بتعهد بالعضوية بعد وقف إطلاق النار وضمانات أمنية رادعة ومستقبلية وتشكيل مجلس "الناتو"- أوكرانيا، وزيادة المساعدة العسكرية بحزمة شاملة تتضمن طائرات وصواريخ وآليات وقنابل.
لن يكون بوتين الوحيد الذي يتابع الشقوق والصلابة في "الناتو"، بل إن الرئيس الصيني شي جينبينغ هو الآخر عينه على قمة الحلف، لمعرفة ما إذا كانت الدول الأوروبية ستبقى موحدة ضد روسيا ومقسمة إزاء الصين. ولاشك، ان مشاركة دول مجاوره لبلاده، مثل اليابان واستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، ليست رسالة طمأنة لبكين.