بعد استتباب نوع من الهدوء في المدن والضواحي الفرنسية، وبعد الوقوف على هول النتائج، والخسائر البشرية والمادية، أخذ الأطراف جميعهم يحاولون تفسير ما جرى. وقد تباينت التفسيرات عمقا وإلماما، في طبيعة الحال، كما اصطبغت بما تمليه المواقع الاجتماعية والرؤية الأيديولوجية. هكذا تغاضت الدولة عن الأسباب الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء ما حدث، فاكتفت بالإشارة إلى عوامل بدت لها كافية لتفسير كل أشكال التدمير التي شهدتها الأيام السبعة، بما فيها موت الشاب الجزائري والحرائق التي التهمت مؤسسات وأسواقا وسيارات.
حاول الرئيس ماكرون، بعدما أقرّ بأن ثلث من قاموا بأعمال "الشغب" لم تكن سنهم تتجاوز الأربعة عشر عاما، أن يُرجع ما حدث إلى أمرين اثنين لا ثالث لهما: الوسائط الاجتماعية الجديدة التي تجعل المراهقين "يهجرون الواقع" و"يعيشون في الشارع أوهام العالم الافتراضي"، فلا يعودون يميزون بين لُعَبهم الإلكترونية ولَعِبهم بالنيران والمفرقعات. أما السبب الثاني بحسب ما قاله الرئيس، فهو "تخلي أولياء الأمر عن مسؤولياتهم إزاء أبنائهم"، وعجزهم عن "الاحتفاظ بهم داخل البيوت". في هذا الصدد هدّد وزير العدل هؤلاء الأولياء، بأنهم، إن استمروا في إهمال تربية أبنائهم، فقد يتعرضون لعقوبات مالية، بل لعقوبات بالسجن.
لم يتحدّث الرئيس ولا وزراؤه عن تهميش هذه الفئة من الفرنسيين، ولا عن أوضاعهم الاجتماعية والصحية والتعليمية، ولا عن البطالة والتمييز و"العنصرية"، وعن كل الأسباب العميقة والمتجذرة في تاريخ الجمهورية التي يمكن أن تكون وراء مثل هذه الأحداث.
عندما وجه عمدة إحدى الضواحي السؤال إلى مجموعة من الشباب عن السبب في إيقادهم النيران، أجابوا: "لأنكم لا تلتفتون إلينا أيام السلم. فنحن لسنا موجودين بالنسبة إليكم إلا عندما نحترق".
هؤلاء المراهقون في حاجة إلى من يتماهون معه، مثل مراهقي العالم جميعهم. إلا أنهم لا يجدون تلك الحوامل عند الأحياء الذين تدعي شعارات الجمهورية أنهم مثلهم. فلا يتبقّى لهم إلا أن يتماهوا مع من لقي حتفه
وعندما وجّهت إحدى الصحافيات السؤال نفسه إلى محللة نفسية كانت قامت ببحث اجتماعي حول ضواحي باريس نال إحدى الجوائز، ردّت قائلة: "سوف أجيب بما علّمني هؤلاء أن أردّ به على هذا السؤال: "إننا لا نعلم ضد من، وضد ماذا نقوم بما نقوم به، ولا على ما نعوّل". فهؤلاء الشباب لا يعرفون ضدّ من سيتصرفون وكيف، وما إذا كانوا في بيوتهم عندما يكونون في هذه الفضاءات، أم أنهم فقط "يكترونها". إنهم يحيون هذه الفضاءات وينظرون إليها نظرة مخالفة أشد المخالفة لما قد تتبدّى به لمن يراها من خارج. هذه الفضاءات بالنسبة إليهم أماكن على هامش الجمهورية ألقى فيها التاريخ بآبائهم وأجدادهم، كما لو كانت سجنا مفتوح السقف. تستنتج المحللة النفسية أن هؤلاء المراهقين، وهي تلح على هذه الكلمة، باعتبار أن هذا العمر هو سن الانفتاح على المستقبل، هم في صدد البحث عن "آخر" يصغي إليهم. وهم، بما يقومون به من نهب، لا للعلامات التجارية هذه المرة، ولا للآلات الإلكترونية، وإنما لمواد التغذية، فكأنما لكي يقولوا: أنظروا إلى أوضاعنا وإلى ما أجبرنا على الوقوف عليه وعنده. فهم لم يعودوا يعيشون فقط بؤس الضواحي، وإنما يحسون أن حياتهم تقلصت إلى ذلك البؤس. لم يعد البؤس، بالنسبة إليهم، واقعافحسب كما كان بالنسبة إلى أوليائهم، وإنما صار أفقهم الوحيد. إن بؤسهم استحالة لم يعودوا يقوون على تخطيها.
لذا، عندما سألت الصحافيةُ المحللةَ نفسها: لماذا تنتظر هذه الأحداث شرارة الموت كي تندلع؟ ردّت بأن هؤلاء المراهقين في حاجة إلى من يتماهون معه، في حاجة إلى "حوامل تقمّص"، مثل مراهقي العالم جميعهم. إلا أنهم لا يجدون تلك الحوامل عند الأحياء الذين تدعي شعارات الجمهورية أنهم مثلهم. فلا يتبقّى لهم إلا أن يتماهوا مع من لقي حتفه. لا يعني ذلك أنهم يتماهون مع الموت أساسا، وإنما مع من تعرض للموت، مع من كان حيا ولم يعد كذلك. فكأنّ كل واحد منهم كان يردد خلال انتفاضته: "ليس ناهل هو من مات، أنا أموت بموته، وأخي الصغير كذلك، وجميعنا". التماهي إذا، هو مع الأموات، مع كل شاب لقي حتفه جراء شطط رجال الأمن سواء سنة 2005 أو هذه السنة (علما بأن الفاصل الزمني بين السنتين وبين الجيلين يمكنه أن يفصل الأب عن ابنه، فكأن جيل انتفاضة عهد شيراك بمثابة أب للجيل الحالي).
لا عجب أن يتجذر عدم الثقة هذا، وأن يُعتبر ساكنو الضواحي "مجرمين إلى أن يثبت العكس". من هنا شعورهم الدائم بأنهم مهددون. لذا غالبا ما يلوذون بالفرار حتى أمام شرطة المرور
يمكن أن نتساءل إذا: ألهذا يهاب هؤلاء رجال الأمن؟ فالعلاقة بين هؤلاء ومراهقي الضواحي ليست علاقة طبيعية. حتى صديق ناهل، الذي كان يركب السيارة إلى جانبه، هرب فارّا بعدما قُتل صديقه. وعندما سُئل عن الأمر، أجاب أنه خشي أن يقتله رجل الأمن هو أيضا. كأن هؤلاء الشباب يشعرون بأن الشرطة ليست بالنسبة إليهم مصدر أمن، وبأنها لم توجد في الضواحي لتحميهم. هذا التخوف متجذّر عندهم. فهم غالبا ما يتعرضون للتفتيش ولإثبات الهوية كلما صادفوا رجال "أمن". إنهم دائما محل شكوك واتهام. فطالما ألفوا أن الشرطة لا تثق في تصرفاتهم. لا عجب إذا أن يتجذر عدم الثقة هذا، وأن يُعتبر ساكنو الضواحي "مجرمين إلى أن يثبت العكس". من هنا شعورهم الدائم بأنهم مهددون. لذا غالبا ما يلوذون بالفرار حتى أمام شرطة المرور. والظاهر أن قانون 2017 الذي يعطي رجل الأمن الحق في توجيه فوهة مسدسه نحو من قد يشكل خطرا عليه أو على الأمن العام، لا يأخذ في الاعتبار هذه العلاقة غير الطبيعية التي ترسخت بين هؤلاء وبين من كان عليهم مبدئيا أن يحموهم.
يمكن، في طبيعة الحال، أن نبحث عن الأصول التاريخية لهذا كله. فالتمييز والتهميش والعلاقة مع الدولة الفرنسية التي يمثلها رجال الأمن في الضواحي، كل هذه الأمور تجد تفسيرها في تاريخ العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها. وما بالك إن كان هذا الجيل الذي لم يذهب في الدراسة بعيدا، ولم يدرس، لا تاريخ فرنسا ولا تاريخ مستعمراتها، يجهل تاريخ تلك العلاقة. إلا أن المؤكد هو أن الجهل بالتاريخ، لا يلغي تأثيره على الحاضر، بل إن ذلك التأثير قد يغدو مضاعفا كلما جهلناه أو تجاهلناه.