لا يقف إمتاعُ حكايات ألف ليلة وليلة عند حدود إدهاشنا بغرابة عوالمها وعجائبية تخييلها، بل يتخطّى ذلك إلى إبهارنا بهندستها الرياضيّة وتصميمها المعماري محكم الدقة، دون أن نجزم هل هي هندسة واعية فعلا أم لاواعية من مؤلّفها مجهول الهوية.
يبدأ استرعاء انتباهنا أوّلا من العنوان اللافت: ألف ليلة وليلة! لماذا الرهان على العدد ألف وواحد، وهو فعلا عدد الليالي، كذلك هو عدد الحكايات التي قَصّتها شهرزاد ابنة الوزير على مرّ تلك الليالي للملك شهريار، تماما وكمالا ألف وواحدة. بالمقابل الراوي من سيخبرنا بمآل حكايتها وشهريار في الليلة ما بعد الألف نفسها، وهو من سيحدّ تراسل حكاياتها في هذه الليلة بعد أن كان مسبقا قد دبّج افتتاحية الكتاب.
جدير بالإشارة أن عبد الفتاح كيليطو انتبه إلى هذا الأمر سابقا في كتابه الجارح (العين والإبرة) طارحا سؤالا إشكاليا: لماذا توقفت سيرورة ألف ليلة وليلة في الليلة الواحدة ما بعد الألف؟
يرى عبدالفتاح كيليطو بأن الليلة التي توقف فيها الحكي، ليلة استثنائية، ليلة غير خالصة، لأنها محض ليلة خنثوية، ليلة أوضح من وجه النهار. مما يعني أن لا ليلة ستأتي بعدها، كما لو أن زمنية الحكاية وجدت هذا الحل الماكر لإنهاء امتدادها وتناسلها بشكل خطي وأفقي.
بعيدا عن فرضية عبد الفتاح كيليطو المنصرفة إلى الليلة ما بعد الألف والمعنية بحدّها النهائي الأفقي، يمكن اقتراح قراءة احتمالية عمودية، إضافية، لها علاقة بالهندسة الرياضيّة للكتاب، ولا يتعلق الأمر بالعدد الألف وواحد وحسب، وإنما بعددين لافتين أيضا هما: ألف من جهة وثلاثة من جهة أخرى.
أولا: وفق مفتتح الكتاب، يؤكّد الراوي بأنّ شهريار تزوّج ألف عذراء على مرّ ثلاث سنوات وقتلهنّ في الصباح الموالي لكلّ ليلة اقتران كما هو معلن، حتى لم يبق في المدينة إلا عذراوين: شهرزاد وأختها الصغرى دنيا زاد وهما ابنتا الوزير الذي كلّفه شهريار بأن يأتيه في كلّ يوم بفتاة كي يتزوجها ويقطف رقبتها بسيف صباحا، ولمّا خلت المدينة بعد ثلاث سنوات منهن، دفع الوزير مكرها ابنته إلى هذا المصير الدموي على أمل أن تنجو لِما عُرف عنها من دهاء، وفي الآن ذاته قد تُخلّص شهريار من داء عدائه المزمن للعذارى وسفح قتله لهن.
شهرزاد إذن كانت ستكون الضحية المفترضة ما بعد الألف امرأة، لتصير محصلة العدد: ألف امرأة وامرأة، لكن بفطنتها نجت من حتمية القتل بفعل حيلة الحكايات
عمليّا شهرزاد كانت ستكون هي الضحية ما بعد الألف، وكان من المفترض أن يتزوّجها شهريار ويقتلها لتعزّز رصيد النساء المغدورات لولا أن اهتدتْ إلى مكر الحكْي كي تصدّ جريمة القتل وحتمية الموت.
ثانيا: شهرزاد قارئة مولوعة، ويتضح أنّ عدد الكتب التي قرأتها، أو تحتويها خزانتها الأمر سيّان، هو ألف كتاب.
هي الكتب ذاتها التي سَمَا بها ذوقها وتشذّب وعيها الحاذق.
بالإمعان في عدد النساء المقتولات وعدد الكتب المقروءة، يتضح أن قاسمهما المشترك هو: ألف.
لا يبدو الأمر اعتباطيّا في اختيار هذا العدد، والوقوف حصرا عند حدّه إلى حين.شهرزاد إذن كانت ستكون الضحية المفترضة ما بعد الألف امرأة، لتصير محصلة العدد: ألف امرأة وامرأة، لكن بفطنتها نجت من حتمية القتل بفعل حيلة الحكايات التي حدّت من استرسالها في ألف حكاية وحكاية.
الراجح أن شهرزاد حدّت أو -حدّ الراوي بالأحرى- حكاياتها في العدد ألف وواحدة تماهيا مع العدد الإجمالي للنساء المقتولات وهو ألف، زيادة على واحدة لم يتقرّر مصيرها بعد هي شهرزاد نفسها.
كأنما هي مدركة لخطورة ما بعد هذا الرقم، فإن تخطّته إلى الثانية ما بعد الألف سيكون له عواقب وخيمة، وهي إذ اهتدت لوسيلة الحكي كي توقف النزيف نهائيا في الألف ضحية لا غير، تكون قد أنقذت نفسها وما بعدها.
على عدد الحكايات أن يتطابق مع عدد الضحايا من النساء المقتولات وزد على ذلك شهرزاد نفسها، لكن كسيدة الخلاص. تغدو المعادلة إذن: كل حكاية تتماهى مع امرأة من النسوة المغدورات، إلى أن يصل السرد إلى حكايتها هي في الليلة ما بعد الألف، وهي الليلة الأخيرة بالاستناد إلى الحكاية الحاسمة.
سرعان ما يتراجع العدد ألف لصالح الألف وواحد في كلتا الحالتين، ألف امرأة وامرأة، ثمّ ألف كتاب وكتاب، كيف؟
نعم، فكتاب ألف ليلة وليلة بمجمله، ما هو إلا كتاب جديد آخر، ينضاف إلى الألف كتاب التي قرأتها شهرزاد. كتاب جامع لأطياف كل تلك الكتب التي قرأتها، وبهذا يصير العدد الإجمالي لها: ألف كتاب وكتاب.
ينضاف إلى هندسة الأرقام هذه، العدد 3، فشهريار تزوج وقتل ألف امرأة في ثلاث سنوات، وشهرزاد استغرقت في سرد حكاياتها ثلاث سنوات، وهذا يتماهى بشكل أو بآخر مع الأطفال الثلاثة الذين أنجبتهم شهرزاد كثمرة لزواجها من شهريار على طول ثلاث سنوات أيضا.
هكذا يطفو العدد 3 مقابل العدد 1001 ليصير ندّا له.
كتاب ألف ليلة وليلة بمجمله، ما هو إلا كتاب جديد آخر، ينضاف إلى الألف كتاب التي قرأتها شهرزاد. كتاب جامع لأطياف كل تلك الكتب التي قرأتها، وبهذا يصير العدد الإجمالي لها: ألف كتاب وكتاب
لقد جرى الاعتياد عند العرب القدامى أن يتطيّروا من الأعداد الزوجية، وما كانوا ليتفاءلوا خيرا إلا بالأعداد الفرديّة، ومن غير المستبعد أن فردانية العددين 3 وألف وواحد تحتكم بقصدية مضمرة لهذا التقليد.
لم يقف تأثير كتاب ألف ليلة وليلة عالميا عند حدود ما هو أدبي وفني وموسيقي وسينمائي، بل تعدّاه إلى ما هو علمي، الرياضيات والهندسة خاصّة، إذ أطلق المعماري الأميركي "ريتشارد بكمنستر فولر" صاحب تحفة القبة الجيوديسية، على العدد 1001 اسم شهرزاد.
إنها محض قيمة مضاعفة أن يعادل رقم 1001 اسم شهرزاد في التداول الرياضي والمعماري، مسبغا بذلك عليه المزيد من الغرابة والسحريّة.
على هذا النّحو تزاوج "ألف ليلة وليلة" بين خيطيْ متعتين متلازمتين، من جهة متعة الحكايات ذات المنحى الغرائبي والعجائبي في آن، ومن جهة ثانية متعة هندسة شكل ومعمار الكتاب المؤسس على معادلة رياضيّة جديرة بالاكتشاف.