بين نقيضين
هذان الفيلمان وثائقيان بوضوح، لكن فيلم "بنات ألفة" سُمى لأسباب تسويقية غربية بـ(Four Daughters) هو مزيج بين التسجيلي والروائي وعلى نحو جريء لكنه ليس بالناجح تماما. الفيلم التونسي بالهوية هو ألماني بالتمويل قامت به شركة "تونتي تونتي" في برلين، وهي الشركة نفسها التي انتجت لكوثر بن هنية فيلمها السابق "الرجل الذي باع ظهره".
للفيلم جوانب إيجابية عديدة من بينها رغبة المخرجة في الخروج من الحكاية الروائية إلى مدار الفيلم غير الروائي. لذلك جمعت ما بين الجانبين وانتقلت بين السردين فإذا بنا نشاهد هند صبري تمثّل دور الأم والأم الفعلية (ألفة) تقوم بدورها الفعلي أيضا وهذا ينطلي على البنات الأربع وخصوصا الفتاتان اللتان تطوعتا للقتال في ليبيا قبل أن تهب الأم لإنقاذهما من مصير سوداوي.
تمنح المخرجة وضعا استثنائيا حين تمزج بين المعادلة الروائية وتلك التسجيلية. لا تقدم على شيء لم يسبقها إليه سواها لكنها تمضي فيه إلى حيث لم تعهد السينما فيلما مثله على صعيد حجم ذلك المزج وفعاليّته.
يختلف الفيلم الأردني "إن شاء الله ولد" اختلافا جذريا كونه يؤمن بالفصل بين الناحيتين ويقدم على سرد حكاية روائية بالكامل. سرد خال من المغامرات الفنية، ولو أنه شديد الوعي بالنسبة للكيفية التي يعالج فيها حكايته.
فيلم عن المرأة وبطلته هي نوال (منى حوا) التي تستيقظ في أحد الأيام لتجد أن زوجها (محمد الجيزاوي) ميت في فراشه. يفتح هذا الموت المفاجئ الباب أمام تداعيات كثيرة. ليس فقط أن الزوجة وابنتها نورا (سالينا ربابة) لا تجدان معيلا، بل هناك حقيقة أن المنزل الذي تعيش فيه والذي ساعدت زوجها في شرائه ليس ملكها. وثيقة الشراء لا تحمل أسمها لذلك تجد نفسها في وضع صعب عندما يطرق شقيق زوجها رفقي (هيثم عُمري) الباب ذات يوم لكي يطلب منها بيع المنزل لأن الشرع يحتم أن يرث أهل الزوج كل شيء طالما أن الزوجة لم تنجب ذكرا. ترفض نوال البيع ما ينتج عنه تداول الاحتمالات المختلفة.
عودة تونسية
بالعودة إلى السينما التونسية التي تستفيد من علاقاتها مع شركات الإنتاج الأوروبية أكثر من سواها بين دول المغرب العربي، شاهدنا شواهد مهمّة ما بين نهاية العام الماضي وهذا العام.
مشهد من فيلم "جزيرة الغفران"
المخرج التونسي رضا الباهي عاد بفيلم "جزيرة الغفران" حول كيف كان أهل جزيرة جربة، من مسلمين ومسيحيين ويهود متآلفين في تلك العقود الأولى من القرن العشرين. يحيك المخرج استعراضا لحياة عائلة إيطالية سكنت جزيرة جربة في العقود الأولى من القرن الماضي. نتعرّف عليها وعلى الأحداث التي عايشتها من وجهة نظر الصبي. لن يعني ذلك التزام الكاميرا بوجهة النظر تلك فهناك أحداث تقع بعيدا عن الصبي. لكن الحكاية التي نشاهدها هي نوع من الذاكرة المزدوجة. ذاكرة الصبي الذي يعايش ما يدور وذاكرة الباهي كما استوحاها من حكايات والده. تجد العائلة الإيطالية نفسها أمام تحديات مفاجئة بسبب محاولة الدعاة دفع الأب وابنه لاعتناق الإسلام. بذلك تنهار فكرة التعايش أمام الرغبات المتطرّفة ما يدفع العائلة في نهاية المطاف لشدّ رحالها والعودة إلى موطنها الأصلي. هذه خسارة لفكرة التعايش في مفاد الفيلم. أيضا هناك شقيق الأب الذي قرر أن يبيع الأرض والبيت لمستثمرين من المافيا رغم ممانعة العائلة. حين تفشل عملية البيع تقوم المافيا بتصفيته. هذا الخط ليس أساسيا لكنه يطرح حبكة ملائمة خلال استعراض المخرج للحياة العائلية وأفرادها وما يحدث لهم. تبعا للمتغيرات تفقد العائلة الوداعة التي عاشتها من قبل وتتحول الجزيرة من نموذج تعايش إلى فقدان البيئة الحاضنة له.
"حرقة" للتونسي لطفي نَتان هو أحد فيلمين تونسيين استلهما من قيام محمد البوعزيزي بحرق نفسه في الشهر الأخير من سنة 2010. الحدث الذي تسبب في اشتعال بضع ثورات أخرى أطفئت في بعض الدول وأدت إلى حرب ضارية في أخرى.
كتب المخرج سيناريو فيلم يستعير من وضع البوعزيزي عدة حقائق في محاكاة مقصودة كونه لم يرد (وربما لم يستطع) إعادة سرد الحكاية الواقعية. بطله هو أيضا بائع على الرصيف والشرطة تمر به كل يوم فيلقّمها بالرشوة، يحتج علي، كما احتج البوعزيزي من قبل، على معاملة الشرطة وكلاهما يحرق نفسه أمام مقر البلدية. عند هذا الحد تتوقف المحاكاة لأن السيناريو اختار هنا دروبا أخرى، إذ يعيش علي من بيع البنزين المهرّب ثم يحاول زيادة دخله بالإشتراك في عملية التهريب ذاتها، هذا في الوقت الذي يصر فيه المصرف على استعادة دين كان الأب استدانه قبل وفاته.
المسؤولية جسيمة وفادحة تدفع عليا إلى دروب مسدودة. يطرق أبوابا كثيرة بحثا عن حلول في الوقت الذي تمتهن فيه كرامته عندما لا يملك الرشوة لدفعها لرجل الشرطة.
كل ما يعرضه المخرج نتان قريب جدا من الواقع من دون أن يكون سيرة ذاتية لأحد. في الحقيقة، تمر قرابة ساعة من العرض قبل أن يتأكد المشاهد من أن الفيلم يحاكي ما حدث لمحمد بوعزيزي. خلال ذلك، يدير المخرج الأحداث والشخصيات بقدر متساو من الاهتمام. إدارته هذه كلاسيكية في إطارها العام. الكاميرا ثابتة. همّها الكشف وليس التدخل. السرد مقتصد في أم.اكن عدّة وكأسلوب سرد، لكن ذلك لا يمسّ إيجاز الحالة الاجتماعية والفردية لبطله. التعليق الصوتي لشقيقته لا يأتي فقط ليزيد من جرعة الشعور مع بطل الفيلم بل أيضا كمراجعة لتاريخ حياته.