ذكرنا في مقالة سابقة أن أخبار محاصرة الخليفة الثالث عثمان بن عفان من جانب الثائرين عليه، هي التي دفعت بمعاوية بن أبي سفيان للموافقة على هدنة طويلة مع الروم، بعدما حقّق نصرا باهرا عليهم، في واحدة من كبريات المعارك البحرية التي عرفها العالم القديم، وهي معركة "ذات الصواري"، حيث كانت الطريق إلى القسطنطينية ممهّدة نتيجة فرار الملك البيزنطي قسطاس إلى صقلية، وتفرّق شراذم جنوده مهزومين في غابات الأناضول وسواحل ليقيا.
ولو تأمّلنا تكتيكات معاوية في تلك المرحلة، من المصادر العباسية ذاتها التي تكيل له مختلف التهم، وتنسب إليه شتى صنوف الرذائل، لخرجنا بنتيجة مفادها أنه تجنّب قتال المسلمين قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالجيش الذي أرسله بقيادة حبيب بن مسلمة لحماية الخليفة عثمان، أمر بسحبه بعدما وقعت الكارثة، كما أنه تجنّب التدخل في "معركة الجمل"، ولم يخرج لقتال الخليفة علي بن أبي طالب إلا عندما خرج هذا الأخير لقتاله في صفين، وقد تجنب حسم المعركة عسكريا عندما طرح قضية التحكيم التي حقنت دماء ما تبقى من جيشي الجانبين.
هذه التكتيكات لا يمكن فهمها بشكل صحيح، إذا لم نضعها في السياق الاستراتيجي العام الذي كان يحرّك معاوية، وهو استكمال السيطرة على ممتلكات الأمبراطورية البيزنطية، وصولا إلى دخول القسطنطينية.
للقارئ أن يتخيّل كم من الجنود والخيول والمؤن والسفن الكبيرة والصغيرة، تطلبها حصار القسطنطينية الذي استمر خمس سنوات في أدنى التقديرات، وسبع سنوات في أعلاها
فقر المصادر العباسية
والحقّ أن المصادر العباسية لا تسعفنا في هذا الموضوع بشيء، نظرا لأن أخبار هذه الجبهة لا تشغل مؤرّخيهم بقدر انشغالهم بمعارك المسلمين في ما بينهم، وآية ذلك أن خبر حصار قوات معاوية بن أبي سفيان للقسطنطينية، لا يستحق من جانب المؤرّخ خليفة بن خياط العصفري (777م - 855م) أكثر من سطر واحد: "وفيها غزا يزيد بن معاوية أرض الروم، ومعه أبو أيوب الأنصاري". وبينما يتجاهله الواقدي (747 - 823م)، واليعقوبي (820 - 897م)، يذكره الطبري (839 - 923م) بسطرين لا أكثر،حيث يقول في أحداث سنة 49 هجرية: "وفيها كانت غزوة يزيد ابن معاوية الروم حتى بلغ قسطنطينية ومعه ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الانصاري".
للقارئ أن يتخيّل كم من الجنود والخيول والمؤن والسفن الكبيرة والصغيرة، تطلّبها حصار القسطنطينية الذي استمر خمس سنوات في أدنى التقديرات، وسبع سنوات في أعلاها، خصوصا إذا تأمّلنا اليوم خريطة البحر الأبيض المتوسط، وقسنا المسافات البحرية والبرية بين بلاد الشام ومصر، من جهة، وبحري إيجة ومرمرة والقسطنطينية من جهة أخرى؟
عشر سنوات من الإعداد
احتاج معاوية بن أبي سفيان إلى عشر سنوات من الإعداد والتجهيز لمعاودة حملاته على الروم، بعد نجاته من محاولة الاغتيال عام 40 هجرية، بما في ذلك ترتيب البيت الداخلي الذي استغرق وقتا وجهدا ومالا، وتسويات هنا وهناك.
الخطوة الأولى والحاسمة على هذا الصعيد كانت في استكمال فتح شمال أفريقيا وطرد بقايا الروم منها، وهو ما تم في العام 50 للهجرة، بحسب مصادر الروم والسريان. ثم من عام 51 حتى 54 للهجرة تركزت معارك معاوية في منطقة ليقيا، وهي الساحل الجنوبي والغربي لتركيا الحالية، بما يعني استعادة السيطرة على جزر بحر إيجة التي سبق أن تخلى عنها بسبب الحرب الأهلية.
وفي العام 54 للهجرة وصلت قوات معاوية إلى مدينة خلقيذونية، التي تحولت في أيامنا هذه إلى حي من أحياء إسطنبول يعرف باسم قاضي كوي (Kadıköy)، على الساحل المقابل للقسطنطينية، وهناك تعرضت الحملة لعاصفة حطمت معظم سفن الأسطول، وتسببت في مقتل الآلاف.
حملة خلقيذونية
يمكن تتبع أخبار هذه الحملة في كتاب ثيوفيلوس الرهاوي الذي اقتبس منه البطريرك التلمحري السرياني، ومطران الروم الأرثوذكس أغابيوس المنبجي. حيث يحدّد المنبجي ذلك في عام 14 لمعاوية أي 54 للهجرة، ويقول إن قواته، أي قوات معاوية، حطّت رحالها في مدينة على الساحل لم يسمّها، هي خلقيذونية كما سنرى، فتصدّى لها ثلاثة بطارقة من الروم وانتصروا عليها وسقط من العرب 30 ألفا. وكذلك عانت من الأنواء، واستخدام الروم للمرة الأولى النار في هذه الحرب.
ويضيف المؤرّخ الأرمني سيبيوس، لهذه المعركة تفاصيل ذات مسحة إعجازية، ويضعها بعد سلسلة حملات بحرية كانت تقوم بها القوات البحرية العربية الإسلامية، إذ يقول: "إن معاوية أمير الجيش الذي كان يقيم في دمشق. جهّز السفن الحربية من الإسكندرية ومن جميع المدن الساحلية، وملأ المراكب بالجنود والآلات الحربية. كان لديه ثلاثمائة سفينة كبيرة للغاية تحمل كل واحدة منها ألفا من الفرسان المختارين للغاية. كما أمر معاوية بصنع خمسة آلاف قارب خفيف على متن كل واحد 100 مقاتل، بحيث ينزلقون بسرعة فوق أمواج البحر المحيطة بالقوارب الضخمة. ثم أرسلهم معاوية عبر البحر. وأخذ الجيوش التي معه وذهب إلى خلقيذونية. عندما اقترب خضع له جميع سكان كل أرض، وسكان الشاطئ، وسكان الجبال، وسكان السهول".
لا شك في أن سيبيوس يتوهّم أن معاوية بن ابي سفيان قاد بنفسه حملة برّية لتلتقي السفن، فلا مصدر آخر غيره أكّد ذلك. ويتابع أن معاوية احتلّ خلقيذونية وجعلها مقرّ قواته، وفرّ البيزنطيون منها إلى القسطنطينية لحمايتها. ويضيف أن معاوية أرسل رسالة إلى قسطنطين يطلب منه الاستسلام قبل أن تصل السفن الكبيرة.
بعد ذلك يخبرنا سيبيوس أن الأمبراطور قسطنطين تسلم الرسالة ودخل بيت الله واستجار به، وأعلن بعد ذلك صوما على طريقة نينوى، وهو الصوم المنسوب الى النبي يونان ومدته ثلاثة أيام. ويضيف أن الرب استجاب له، وكان ذلك مع وصول السفن الكبيرة من الإسكندرية، وقبل ان يتوجهوا نحو القسطنطينية بآلات الحصار والمنجنيقات. وفي ذلك يقول: "تم الكشف عن قوة الربّ الرهيبة. لأنه أعطى إشارة، وتسبّب بهبوب رياح هوجاء، تحوّلت إلى عاصفة عظيمة، حرّكت أعماق البحر وصعدت إلى السطح، وخلفت موجات بارتفاع قمم الجبال، قرقرت الهاوية وسقطت الأبراج، ودُمرت السفن والآلات، وغرقت أعداد كبيرة من القوات في أعماق البحر... في ذلك اليوم رفع الله يده عن المدينة بسبب صلاة الأمبراطور التقي قسطنطين، ولم ينتهِ عنف الرياح وخفقان البحر لمدة ستة أيام".
على الرغم من فداحة الخسارة عاود معاوية تجميع قواته، وأرسل ابنه يزيد على رأسها، مهدّدا إياه بنزع ولاية العهد منه إن تخلف عن المهمة. ولا نجد تفاصيل لحملة يزيد هذه سوى في ما تبقى من كتاب تاريخ أبي زرعة الدمشقي
شعر ليزيد في الكارثة
هذه الحملة، أي حملة خلقيذونية، تغيب عن السرديات التاريخية العربية الإسلامية وتحضر فقط من خلال بيتي شعر ليزيد بن معاوية يقول فيهما:
إذا اتكأت علي الأنماط في غرف
بدير مران عندي أم كلثوم
فلا أبالي بما لاقت جموعهم
بالقرقذونة من حمى ومن موم
والقرقذونة المذكورة هنا هي الصيغة المعربة لخلقيذونية، فاهتمام المصادر العربية انصبّ هنا على اتكاء يزيد على الأرائك في قصره، بين نسائه وجواريه، في حين كان الجيش يعاني في القرقذونة. وقد شكل هذان البيتان مادة دسمة للمؤرخين العباسيين، ومن اقتبس منهم، للطعن بيزيد، حتى لو كان هذا الطعن على حساب تفاصيل حملة بحرية كبرى، تعرضت إلى كارثة ذهب ضحيتها عشرات الألوف من الجنود.
حملة دعم
على الرغم من فداحة الخسارة عاود معاوية تجميع قواته، وأرسل ابنه يزيد على رأسها، مهدّدا إياه بنزع ولاية العهد منه إن تخلف عن المهمة. ولا نجد تفاصيل لحملة يزيد هذه سوى في ما تبقى من كتاب تاريخ أبي زرعة الدمشقي (المتوفى سنة 895 ميلادي)، فهو المصدر العربي الوحيد الذي تناول هذا الحدث بشيء من التفصيل، وذكر تأريخا دقيقا لبدء الحملة نقلا عن محدث كبير وثقة هو سعيد بن عبد العزيز التنوخي الدمشقي (709- 780م) المعاصر لنهايات الدولة الأموية وبدايات الدولة العباسية، حيث يقول: "فأغزا معاوية الصوائف وشتاهم بأرض الروم، ست عشرة صائفة، تصيف بها وتشتوا، ثم تقفل وتدخل معقبتها، ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين، في جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرّ والبحر، حتى جاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل".
خبر سعيد بن عبد العزيز هذا يتفق مع معظم المصادر غير الإسلامية التي حدّدت تاريخ بدء الحصار ومدّته بين خمس سنوات وسبع.
تفاصيل الحملة
نقرأ في كتاب المؤرخ البيزنطي ثيوفانيس (752-818م) تفاصيل مهمة في أحداث عام 674 التي تتوافق مع عامي 54 و55 الهجريين، إذ يكتب أن الأسطول العربي الذي غادر قواعده من شرق بحر إيجة ودخل بحر مرمرة قد رسا في شهر أبريل/نيسان على شاطئ تراقيا (أي الساحل الأوروبي من بحر مرمرة) بالقرب من الهيبودروم (وهي المنطقة التي تسمّى اليوم بكركوي من أحياء إسطنبول الأوروبية). ويقول إنهم اشتبكوا مع البيزنطيين حتى شهر سبتمبر/أيلول بقتال يومي بين كرّ وفرّ، من الصباح حتى المساء، عند البوابة الذهبية للمدينة (تقع اليوم في حي سماطيا من أحياء أسطنبول الأوروبية)، وعند بوابة كيكلوبيون (في الحي المعاصر المسمّى حاليا "زيتون بورنو"، في أقصى غرب القسطنطينية القديمة داخل السور)".
ويقول ثيوفانيس إن العرب اتخذوا جزيرة سيزيكوس مقرا لهم وأقاموا فيها معسكرا دائما لقضاء الشتاء طوال مدة الحصار. جزيرة سيزيكوس هي الآن جزيرة متصلة بالبرّ، وربما تسبّبت بذلك الزلازل، وهي تقع في منتصف شاطئ مرمرة الأناضولي.
مصدر ماروني
يمكن الزعم أنّ مخطوطة الحوليات المارونية المكتوبة بالسريانية هي المصدر الأعلى قيمة في أخبار تلك المرحلة، كونها كتبت أثناء وقوع الأحداث، وزوّدتنا تفاصيل مهمة عن الحصار والاشتباكات بشكل يوحي بأن كاتبها أحد شهود العيان.
تقول هذه المخطوطة: "صعد يزيد بن معاوية مرة أخرى بجيش عظيم نزل في تراقيا، وهناك تفرّق العرب بغرض النهب، تاركين أجراءهم وأبناءهم لرعي الماشية وأخذ أي شيء في طريقهم. ولما رآهم الجنود المرابطون على الأسوار خرجوا وأغاروا عليهم وقتلوا عددا كبيرا من الشبان والأجراء وبعض العرب أيضا. ثم انتزعوا الغنائم منهم ودخلوا إلى المدينة".
وتضيف الحوليات المارونية: "في اليوم التالي، اجتمع كل شباب المدينة سويا، جنبا إلى جنب مع الذين أتوا للاحتماء بالمدينة، وعدد قليل من الرومان وقالوا: "دعونا نغير عليهم". لكن الملك قسطنطين قال لهم: لا تفعلوا، ليس هجومكم السابق معركة انتصرتم فيها، فكلّ ما فعلتموه هو عملية سطو عادية. لكنهم رفضوا الاستماع إليه. وبدلا من ذلك، خرج عدد كبير منهم مسلحين يرفعون لافتات ورايات عالية على طريقة الرومان. وفور خروجهم أغلقت البوابات، ونصب الملك خيمة على السور ليتمكن من مراقبة ما يجري. قام العرب باستدراجهم متراجعين لمسافة بعيدة عن السور، كي لا يتمكنوا من العودة سريعا عند هروبهم. وجلسوا على الأرض. وعندما وصلوا إليهم، نهض العرب على أقدامهم وصاحوا بلغتهم الله أكبر. وعلى الفور انهزموا فارّين. وطاردهم العرب حتى أدركوهم فقتلوهم وأسروا من بقي منهم حتى حدّ المكان الذي كانت منجنيقات الأسوار تصل إليها". وتقول الحولية المارونية: "من شدّة غيظه منهم تردّد الملك قسطنطين بفتح البوابات لهم، مما أدّى إلى قتل بعض هؤلاء بسهام العرب".
يمكن الزعم أنّ مخطوطة الحوليات المارونية المكتوبة بالسريانية هي المصدر الأعلى قيمة في أخبار هذه المرحلة، كونها كتبت أثناء وقوع الأحداث، وزوّدتنا تفاصيل مهمة عن الحصار والاشتباكات بشكل يوحي بأن كاتبها أحد شهود العيان
وفاة معاوية ورفع الحصار
رفع الحصار عن القسطنطينية بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان، وعاد الجيش ليخوض معارك الخلافة التي اندلعت لحظة تولي يزيد زمام الأمر، مع افتقاده عقل والده وحكمته، فسرعان ما تورط في حروب داخلية جرَّت خلفها حروبا ومعارك على السلطة، لم تتوقف إلا في عهد المؤسس الثاني عبد الملك بن مروان.
اليوم؛ في مسجد "تحت الأرض" في حي كراكوي، على الجانب الأوربي من إسطنبول ثلاثة قبور يقول الأتراك إنها تخص ثلاثة من الصحابة المشاركين في الحصار الأول للقسطنطينية، أحدهم يدعى سفيان بن عيينة. وهو خطأ من جانب الشيخ آق شمس الدين، الذي أشار على محمد الفاتح بهذا الاسم حين كشفوا عن الأضرحة الثلاثة في المكان. والمرجح أن القبر يعود الى القائد سفيان بن عوف الذي تجمع المصادر على مقتله في القسطنطينية أثناء الحصار، وهو الذي قال فيه معاوية بن أبي سفيان حين بلغه نبأ مقتله: "واسفياناه، لا سفيان لي".